المسافة الخاصة

محمد فهد الحارثي

كيف تجرؤ العصافير على التغريد، كيف يمكن لهذا البحر أن يواصل استلقاءته على الشاطئ ويمارس لعبة الأمواج المتكررة. وهل جنَ الليل، أم أنه لم يعلم بغيابك، فبقى يواصل روتينه ويترك مكانه في الفجر للنهار؟ ما الذي حل بالعالم. مازالوا يستفيقون في الصباح ويغادرون لأعمالهم، وفي المساء تعج المطاعم والمقاهي بالبشر. كيف يمكن أن يحدث كل هذا وأنت بعيدة عني، لابد أنهم لا يعلمون، وإلا كيف تشرق الشمس في الصباح؟ 

نركض في حياتنا مسارات، وتمر علينا محطات، ويساعدنا الحظ مرة، ويعاندنا مرات. لكنني حين رسيت في ميناءك شعرت أن الرحلة انتهت، أو بالأصح، بدأت. لأن ما قبلها كان الوهم. قبلك كانت محاولة بحث، بعدك محاولة استرجاع. يالسذاجتنا!. لا ندرك أهمية الشيء إلا بعد فقدانه، ولا نقدر قيمة الأشياء إلا بعد رحيلها. لماذا نتعامل مع اللحظات الرائعة كواقع عادي، لنكتشف بعد فوات الأوان كم كانت ثمينة، وأنها كانت العمر.

لماذا حينما تغادرين تتركين كلك هنا؟ أنفاسك في كل الزوايا، ابتساماتك وضحكاتك الطفولية، حركات يديك العفوية، رائحة عطورك تملأ المكان. ما من شيء غادر ما عدا أنا، وإن بقيت. فعلا. الأماكن لا تعني شيئاً. البشر هم من يصنعون للمكان روحاً ومعنى وقيمة.

الوحدة صعبة، ليس في شكلها الظاهري، بل في إحساسها الداخلي. كم من المرات نكون مع عشرات البشر ونشعر أننا وحدنا. بينما وجود شخص واحد يجعل الكون كله يختصر في مساحة مكانه.

لو تعلمين أن المسافات أبدا لم تكن عائقاً. وأنني كلما فتحت درجاً من الذاكرة قفزت تتعلقين بأهدابه وبنبض الفؤاد، وأتهرب من واقعي فأغمض عيني، لأراك فجأة تتربصين بابتسامتك وأزهى حللك. كعادتك أبدا، أناقة لا يرسمها المظهر فحسب، بل الجوهر.

أي احتلال هذا الذي أعانيه، وأتواطأ معه.  أريد أن استعيد ذاتي فمند غادرت، اختلفت مع نفسي وتباعدنا. وما من شخص يدخل في تلك المسافة الخاصة بين الذات والأنا إلا أنت. تكفيني غربة مع الذات، كوني هنا لأكون أنا.

 

اليوم الثامن:

نعتقد أننا نسينا ونغادر

وعندما تتمرد العاطفة

نعرف كم كنا نتوهم ..