لعنةُ القوّة

مريم شمص

من أسوأ ما يعلنُه الإنسان للآخرين: أنه قويّ، وأنه يتحمّل، وأنه يتفهّم..

سيُطلَب ذلك منه في أيّ وضعٍ، في أيّ حالٍ، وتحت أيّ ظرف..

سيُمنَعُ من بعدها أن يكونَ غير ذلك، سيُمنَع تحت مبرّراتٍ عديدة، فهو السّند، وهو الكتف، وهو الظهر الذي ينبغي أن يظلّ مستقيماً. سيُمنَع من الانحناء حتى لو ناءَ تحت أثقاله، سيُحرَمُ أن يميلَ حتى لاستراحةٍ قصيرةٍ، فإذا مالَ السّندُ سيسقطُ بعده كلّ من يتّكئُ عليه.

سيُسمّى بطلاً. وتحت هذا المُسمّى الشاهق الباهر، سيُطلَب منه كلّ شيء.

سيُطلَب منه أن يكونَ خارقاً: درعاً مضادّاً للظروف، إسفنجةً سحريّةً لامتصاص الضغوط، قلباً مصفّحاً ضدّ الصدمات، وعقلاً راجحاً يتّسع لكلّ شيء، لكلّ أحد، لكلّ خطأ، مهما كان الثمن.

سيُسمّى بطلاً، ولقب البطولة حين يمنحه الناس له ليس تشريفاً ولا هديّة، بل مجرّد عنوانٍ برّاقٍ مغرٍ، يجمّلون به رغبتَهم بالاتّكاءِ عليه، وليس ما يعنونه بالبطولة إلّا أن يكونَ بطلَهم هم.

يريحُ الناسَ أن تكونَ بطلاً، يريحُهم جدّاً.. سيمنحُهم ذلك القدرةَ على التملّص من مسؤوليّاتهم تجاهك، على مطالبتك بعدم إعلان حاجتك إليهم، على توقّع قدرتك على التحمّل مهما كان السبب. لن يضطرّوا لتفهّم نظراتك الزائغة حين يطحنك التعب، لن يضطرّوا لتقبّل ملوحة دمعك حين يجتاحك القلق، لن يضطرّوا لأن يكونوا أقوياءَ من أجلك.

أجل، قوّتُك ستمنحهم دائماً وقاحةَ التهرّب، وقاحةَ التنصّل، ووقاحة الأنانية.

من يطلبُ منك أن تكون بطلاً طوال الوقت: أنانيّ جداً، ولا يحبّك!

من يطلبُ منك أن تكون خارقاً على الدوام: استغلاليّ، انتهازيّ، ولا يحبّك!

من يحبّك فعلاً: سيسمحُ لك بأن تكونَ أنت، بكلّ حقيقتك، بضعفك، بهشاشتك، بمخاوفك، بتعقيداتك، بنوباتِ القلق المتخثّرِ في داخلك، بخدوشِ جروحك التي لم تلتئم، بندباتِ الضربات التي لم تعرف كيف تردّها عن قلبِك، بنقائصك...

من يحبّك فعلاً سيطلبُ منك أن تكونَ إنساناً.. إنساناً عاديّاً يغضبُ حين تُستنزفُ طاقةُ صبرِه، يضعفُ حين يتجاوزُ الألمُ قدرتَه، ينكسرُ حين يغلبه حزنُه، يطلبُ المساعدةَ حين تخورُ قواه. من يحبّك فعلاً سيتقبّل هزائمَك، سيسمحُ لك بأن تعترفَ بخيباتك، سيفتحُ قلبَه لانكساراتك. لن يطلبَ منك أن تتظاهرَ بالقوة، لن يعاتَبك على حساسيّتك، لن يطالبَك بالتحمّل حين تعلنُ نفادَ صبرك، لن يطلبَ منك انتحالَ شخصياتٍ لا تشبهك، ولا لبسَ أثوابٍ تتجاوز مقاسك، ولا التنكّرَ خلف أقنعة تخنقك.

 من يحبّك فعلاً سيكون قويّاً من أجلك حين تحتاجه، وسيسمحُ لك أن تعلنَ ضعفَك، وسيتفهّمه.

جميلٌ أن تكونَ قوّتنا أماناً ودعماً لمن نحبّ، والأجملُ أن نقوى نحن أيضاً بمن نحبّهم.

الأقوياءُ أحياناً قد يكونون الأشدَّ حاجة لإعلان تعبهم ورغبتهم بالاستراحة..

هم، من يتحمّلون طويلاً ويصبرون عميقاً، حين يُستَنزفون، سيكون سقوطُهم كارثيّاً، فاجعاً ومدوّياً، ومعهم كلّ من يستندُ عليهم.

افهموهم، وادعموهم، فليس كلّ جَلودٍ خالياً من الألم.