لم يكن لديّ وقت ولا رغبة في مناقشة ابني المراهق الذي كان يتناول فطوره بشهية واضحة، تكذّب كلَ أقواله.
«أنا تعب فعلاً، لن تنطبق السماء على الأرض إن بقيتُ في البيت هذا الصباح، لن أستوعب شيئاً من شرح الأستاذ في كل الأحوال، دماغي بحاجة لفترة راحة..».
منذ أن أيقظته وهو يتلكأ، أعرف كيف يقضي لياليه، ألعاب الكومبيوتر السخيفة ذهبت بعقله تماماً.
«انظري إليّ.. أنام وأنا جالس، ماذا سأستفيد إن ذهبت للمدرسة؟».
لديه حصة رياضيات، وهو في سنته الثانوية الأخيرة، لا يمكن أن يستمر بهذا العبث.
دخل والده وأنهى الأمر بجملة: «غيّر ثيابك وكف عن الثرثرة، تأخرت بما يكفي..».
بلع قهوته بسرعة واستعجلني، كنت أرغب في البقاء قليلاً للتأكد من أن الولد سيلحق بمدرسته، لكن زوجي لم يكن مستعداً للتأخر هو الآخر، لا مجال لأن يعصي ابننا أوامره، لا أعرف كيف يتصرف ولكنه يتحدث قليلاً، وينفذ الولد ما يقوله دون مناقشة. أنا أحتاج لساعات من الأخذ والرد قبل أن أحصل على ما أريد منه، هذا إن حصلت عليه.
تناولت حقيبة يدي، وناديت الولد: «أسرع إن أردت أن نوصلك..».
«لن أنتظره»، قال أبوه، «ولن أغير طريقي وأتأخر عن المكتب من أجله، كان عليه أن يستيقظ مبكراً ويوضب حاله..».
نزل الولد بسرعة وحذاؤه في يده، جلس على درجة السُلم وانحنيت لأساعده في ارتداء الحذاء، وجذبني زوجي غاضباً: «ماذا تصنعين؟ لم يعد صغيراً.. هيا بنا..».
احتج ابننا بحنق مكتوم: «ليس عدلاً.. سأتأخر.. وأنا لست بخير.. وهذه الحصة اللعينة.. أتمنى أن يمرض الأستاذ.. أو تتعطل سيارته.. أو تواجهه مشكلة تمنعه من الحضور.. أتمنى أن تُلغى الحصة اللعينة..».
لحقت بزوجي الذي فتح السيارة وهو يتمتم: «كل هذا منك.. هذه نتيجة تربيتك.. شاب في السابعة عشرة يتصرف كالأطفال..».
كلما ناقشنا مسألة عبث ابننا وضعف اهتمامه بدراسته، يرمي زوجي كل المسئولية عليّ، أنا دللت الولد كثيراً، وتغاضيت عن أخطائه؛ بل وأخفيتها عن والده أحياناً، وهو محق في ذلك، لكن ماذا أفعل؟ ابني الوحيد، ولا أعرف كيف أمنع نفسي من حمايته والحنو عليه، ربما أفعل ذلك بشكل مبالغ فيه أحياناً، لكنها غريزتي، ولا قدرةَ لي على السيطرة عليها.
أتمنى لو أستطيع أن أتحكم في عواطفي أنا أيضاً.
التحقت بقسم المستعجلات في المستشفى الرئيسي حيث أعمل، وجهزت حالي بسرعة وأنا أثرثر مع زميلة تأخرت مثلي، على الأقل هي معذورة، تكاد تنهي شهرها السابع وعما قريب ستتوقف عن العمل حتى تنتهي إجازة ولادتها.
في كل مرة أرى فيها سيدة حاملاً أشعر بوخزة ألم في قلبي، حين أنجبت ابني، بعد عملية قيصرية معقدة، قيل لي إنني لن أستطيع أن أحمل مرة ثانية، تداعيات العملية قضت على كل فرصي في الإنجاب من جديد.
استلمت مناوبتي وانهمكت في العمل وشيء ثقيل يجثم على صدري.. وكأنني أحسست بما سيحصل قبل أن أعرفه.
قلب الأم.
ألا يقولون إن الواحدة منا تحس بما يحدث لأولادها قبل غيرها؟
لم نكد نبدأ الشغل حتى جرت إحدى الممرضات إليّ ووجهها ممتقع: «تعالي.. تعالي.. ابنك..»، قالت بصوت مرتبك وتبعتُها وقلبي ينبض بجنون.
رجال الإسعاف تقدموا نحونا بحمالتين، ابني كان يرقد في الأولى، دماء تغطي وجهه وثيابه.
شعرت بالدنيا تدور من حولي، وارتفع صوته يناديني بقلق: «ماما؟».
فتحت عيني وحمدت الله، لازال حياً، انحنيت أتفقد إصاباته.
سطحية في أغلبها، كسر في ساقه.
«ماذا حدث؟».
«تأخرت، وأنتما رفضتما أن توصلاني..»، قال عاتباً، «اجتزت الطريق أمام المدرسة وصدمتني سيارة أستاذ الرياضيات..».
أشار برأسه إلى الحمالة الثانية؛ حيث يرقد رجل أربعيني.
قال رجل الإسعاف: «فقد السيطرة على السيارة بعد أن صدم الولد، واصطدم بشجرة..».
عدت لولدي الذي كان يئن وهو ينظر إليّ: «في النهاية ستلغى الحصة، كان من الممكن أن نتفادى كل هذا لو بقيتُ في المنزل..».
رفعت عيني للسماء بعصبية: لن يتغير هذا الولد أبداً.