قَبِلَ مرغماً أن أرافقه إلى المنزل الريفي؛ لم يرد أن يتركني وحدي في البيت. منذ خروجي من المستشفى وهو يحرسني كظلي. أمر يصعب تقبله على امرأة كانت في فترة ما تلعب الدور نفسه.
راحت تلك الأيام.
الأسبوعان اللذان قضيتهما راقدة في السرير، محاطة بكمية هائلة من الأجهزة والأنابيب والأدوية المختلفة الأشكال والأنواع؛ قضيا على ما تبقى من عزيمتي. أشعر بنفسي أذوي وأموت بصمت. أولاً عملي، وثانياً نوبة المرض الأخيرة التي أكدت لي أنني لم أعد كما كنت.
اضطررت لتقديم استقالتي حين تكررت نوبات مرضي في الشتاء الماضي. صرت أنهض من حمى زكام حاد لأقع فريسة حالات ضيق تنفس أكثر حدة، تليها نوبات سعال مخيف يكاد يقطع رئتي. التنقل اليومي من وإلى السجن الجبلي، حيث أعمل زاد من حدة ما أعانيه. الطريق طويلة، وحافلة النقل الخاصة بالعاملين لا تتوافر على نظام تدفئة يساعدني على تحمل برودة الطقس الجبلي. نعم؛ فمبنى السجن المطل على الوادي مشيد في أعلى الجبل، وجدرانه الإسمنتية الكئيبة لا تحمي قاصديه من صقيع الشتاء الجبلي شمال البلاد.
لم أقضِ فترة طويلة في ممارسة المهنة. تخرجت منذ ثلاث سنوات، وعُينت حارسة في السجن الذي قيل لي إنه يطل على أجمل وديان منطقة الجبال الخضراء. مكان أُرِيدَ له أن يمنح المقيمين فيه فرصة للتأمل ودراسة الأخطاء وإصلاحها عبر تقريبهم من الطبيعة وعزلهم عن مغريات المدنية.
بدايات مرضي ظهرت في أول شتاء قضيته في السجن. حاولت التعايش مع الأمر، لكن تعرفي إلى زوجي عجَّل بتغيير أمور كثيرة في حياتي. أصر على أن أراجع عدداً من الأطباء نصحوني بالانتقال إلى منطقة دافئة. تناقشت في الأمر معه، وبعد طول أخذ ورد، ونوبات مرض متتالية، اقتنعت بأن جدران السجن الباردة لا تناسبني.
اضطررت -إذن- لترك عملي ومرافقته إلى الرباط حيث لم ألبث أن انهرت إثر نزلة برد جديدة تطورت بشكل سيئ أجبرني على الرقود في المستشفى طويلاً.
تصادف الأمر مع مخلفات وفاة والده بعد طول معاناة. إخوته الذين قَدِمَ بعضهم من خارج البلاد يودون تسوية أمور التركة سريعاً. وزوجي لا يمانع في ذلك. ومن هنا زيارتنا إلى منزل والده في ريف طنجة، في الشمال.
المكان جميل. البيت الذي يطل على البحر مشيد على رابية مغطاة بأشجار البلوط والكستناء. وشمس الظهيرة الدافئة تعكس خيوطها الذهبية المتلألئة على الأمواج المتدفقة برتابة حالمة.
إخوة زوجي يتجولون في الطابق الأرضي ويتفقدون الغرف والأثاث.
سلمنا عليهم، وتركته معهم، وانطلقت أستكشف المكان، وأمدَّ وجهي للشمس كلما مررت أمام النوافذ. زياراتي السابقة للمرحوم كانت قصيرة، مرضه وانشغالاتنا المهنية أنا وزوجي لم يسمحا لنا بالبقاء طويلاً رفقته.
صعدت إلى الطابق العلوي، ودلفت إلى غرفه واحدة بعد أخرى، وانتهى بي الأمر في غرفة نوم الوالد.
غرفة واسعة ومضيئة، تتوسطها بلكونة تطل على البحر.
وقفت أتأمل المنظر الخلاب وأتنفس بعمق، وأسعل. عدت إلى الداخل وجلست على حافة السرير، وأنا أحاول أن أهدأ. أحنيت رأسي بضعف ولمحت عند قدمي شيئاً تحت السرير، انحنيت أسحبه.
كتاب ضخم انبعجت أوراقه من كثرة التصفح.
رحلة استكشاف ذاتية على ما يبدو.
استندت إلى ظهر السرير، وبدأت أقرأ بفضول. لم أكن أعلم أن والد زوجي يحب المطالعة. كان يعمل في خطوط السكة الحديدية، والكتاب يتحدث عن ...
قفزت عيناي من محجريهما، وباغتتني نوبة سعال عنيف وأنا أتمعن، غير مصدقة، في ما أقرؤه.
«سيدة مريضة تزور وزوجها منزل والده الذي تُوفي إثر مرض عضال»!
وضعت يدي على صدري.
«السيدة تتجول في البيت المطل على البحر، والزوج وإخوته يتناقشون في أمور التركة».
ما هذا الجنون؟! ازدادت ضربات قلبي وأنا أقرأ، «السيدة تدخل إلى غرفة المرحوم، وتقف في البلكونة، وتنظر إلى البحر. المنظر جميل. نوبة سعال مفاجئة تهز صدرها وتدفعها إلى الجلوس على السرير. تنحني بضعف وتلمح كتاباً ضخماً، تتناوله وتبدأ في القراءة، وتسعل من جديد، وتضيق أنفاسها»!
فتحت فمي بحثاً عن جرعة هواء، ما هذا الذي أقرؤه؟! كيف يسرد الكتاب حياتي؟!
انحبست أنفاسي وضاق صدري، حاولت أن أسعل من جديد، وأغلقت عيني وأنا أشعر بشيء مفزع يشدني بعنف ويهزني، يهزني، يهزني:
«أفيقي، هيا، تنفسي الآن، تنفسي».
فتحت عيني بهلع، ووجدت زوجي يشدني من ذراعي، والذعر يملأ عينيه: «تنفسي الآن»، أمرني وسحبت نفساً طويلاً وأنا أسعل وأختنق بريقي.
«ماذا دهاكِ؟ كيف تنامين أمام الشرفة؟! وما هذا المجلد الذي وضعته فوق صدرك؟ هل تحاولين الانتحار؟!».
أغلقت عيني وفتحتهما عدة مرات. إخوة زوجي يهدؤون من روعه، وأنا لا أزال أسعل، والكتاب الضخم إلى جانبي.
كنت أحلم.
فتحت فمي لأحكي له عما جرى لي، ثم أغلقته.
في ما بعد.
أنا الآن في أمان؛ كنت أحلم.