أن تقرر ذات يوم، هكذا من دون تفكير مسبق، السفر إلى الرياض للدراسة في جامعة الملك سعود؛ ضارباً عرض الحائط بنصائح الأقرباء والأصدقاء؛ فهذا أمر جدير بالتأمل الذاتي والموضوعي أيضاً.
الطالب الذي تخرج في قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود «ماجستير»، هو الدكتور إبراهيم أغلان، وهو حالياً أستاذ باحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ومسؤول عن شعبة التواصل في المكتبة الوطنية بالمغرب، يقول عن تجربة دراسته المتميزة في المملكة العربية السعودية.
نشأتي العلمية
سفره إلى المملكة كان في بداية السنة الجامعية 1984/1985، وقد اختار قسم الآثار والمتاحف، الذي يديره في ذلك الوقت أساتذة سعوديون وعرب، ويعود تأسيسه إلى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، يفتح الدكتور إبراهيم أغلان من المغرب، رصيد ذاكرته لـ«سيدتي» ويقول: «تتلمذت على يد الدكتور الأنصاري، الذي شجعني بكل صدق واحتضنني إنسانياً وعلمياً؛ فاستفدت من خبرته وتوجيهاته الفكرية النيرة، وهو أمر جعلني ألتزم علمياً، وأصبح مديناً لهذا الأستاذ الرائد بتأهيلي الأركيولوجي».
مساحة من الحرية
يتذكر أغلان أن قسم الآثار والمتاحف، بالرغم من وقوف المجتمع ضده، وعددم السماح بالخوض فيه، ظل بأساتذته وموظفيه، صامداً في الكشف الميداني عن العمق الحضاري للجزيرة العربية، وكذا للتنوع والغنى اللذين يطبعان التراث الثقافي بالمملكة العربية السعودية.. يتابع الدكتور أغلان: «أذكر أيضاً سعادتي؛ مقارنة مع طلاب آخرين بأقسام أخرى، أننا حظينا بمساحة حرية على مستوى النقاش، الذي كان يمتد إلى مجالات أخرى تهم البحث العلمي كما تهم المجتمع، كنا كطلبة، أصدقاء لأساتذتنا، بالرغم من تشعب الانتماءات إلى المدارس الأثرية الغربية.. كما أن الجو العام سمح لي بالاندماج المباشر في المجتمع السعودي، وبالتالي فهم بنيانه القديم والحديث والمعاصر.
اكتشفنا قرية الفاو
يجد أغلان أن التجربة المتميزة له خلال فترة دراسته، كانت الاكتشافات بالموقع الأثري قرية الفاو، عاصمة مملكة كِندة الأولى وإحدى الممالك العربية القديمة بشبه الجزيرة العربية، يستدرك قائلاً: عشنا فصلاً دراسياً كاملاً في هذا الموقع الذي يبعد جنوب غرب الرياض بمسافة 700 كم، وتحديداً غرب السليل بنحو 100 كم، وجنوبي وادي الدواسر بالمسافة ذاتها تقريباً، بالنسبة لي، لم يكن التنقيب في هذا الموقع مجرد تدريب ميداني فقط؛ بل كانت لحظة اكتشاف حقيقي لنموذج من المدن العربية قبل الإسلام، هكذا كانت الفاو، التي عُرفت قديماً باسم «ذات كهل» نسبةً للإله السبئي الشهير «كهل»؛ مسكناً ومعبراً للقوافل ضمن المسلك التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية في اتجاه شمال شرقي الخليج العربي وبلاد الرافدين وشمال غربي الحجاز وبلاد الشام، إلى أن أصبحت مركزاً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في وسط الجزيرة العربية، وعاصمة لدولة كِندة لأكثر من خمسة قرون «من منتصف القرن الأول قبل الميلاد حتى مطلع القرن الرابع الميلادي».
عائلة واحدة
يتابع الدكتور أغلان: «كانت تجربة الفاو أول لقاء بالتنقيب، عرفت فيها معنى أن تكون باحثاً في الآثار.. كانت بعثة مكونة من طلبة وأساتذة وفنيين وعمال، يترأسها أستاذنا الدكتور عبدالرحمان الأنصاري، نتوجه كل يوم إلى الموقع ابتداءً من الساعة الخامسة صباحاً، لنعود في حدود العاشرة لتناول الفطور، ثم نعاود الحفر في الموقع، وبعد الغداء، كنا ندرس في خيمة؛ حيث لم يكن التدريب الميداني سهلاً؛ بل شاق في كثير من الأحيان؛ عملياً كنا في نظام شبه عسكري، وإنسانياً كنا عائلة واحدة، لا فرق بين أستاذ وطالب، وبين عامل وطباخ».
أتيحت للدكتور إبراهيم أغلان المشاركة في أعمال التنقيب بالموقع ذاته لمدة سبعين يوماً، كانت أيضاً فرصته لإعادة قراءة البحث الأثري بالجزيرة العربية، وهو موضوع أطروحته، التي حاول من خلالها إقامة الدراسات والأبحاث الأركيولوجية التي جعلت من الجزيرة العربية موضوعاً للبحث والتنقيب؛ سالكاً بذلك ما يسمى بالقراءة الإبستمولوجية للبحث الأركيولوجي من خلال الإجراءات والإستراتيجيات، وكانت خلاصات الأطروحة، في زمنها سنة 1995، ذات أهمية على مستوى آفاق ومستقبل البحث الأثري في الجزيرة العربية.
إن البحث الأثري بالمملكة العربية السعودية، بحث متطور، أسس لذاته مساراً، دشنه الجيل الأول من المؤرخين «البليهد، الجاسر، عبدالقدوس الأنصاري..»؛ لينتقل إلى مرحلة جديدة قوامها المعرفة العلمية، مع الجيل المؤسس لقسم الآثار والمتاحف «عبدالرحمان الأنصاري، سعد الراشد، وعمر الزيلعي..»، ثم استمراراً مع جيل من الباحثين المجتهدين في مجالات مختلفة من البحث الأثري، الذين سيأخذون على عاتقهم تعميق المعرفة الأركيولوجية بالمملكة، إلى جانب تدبيرهم للتراث الحضاري للجزيرة العربية وفق منظومة علمية، وفي ذات الوقت منفتحة على المجتمع، تراهن على تثمين هذا التراث الغني والمتنوع.
يعلّق الدكتور أغلان: «في المملكة اليوم، رؤية جديدة لتثمين التراث الأركيولوجي، بالحفاظ عليه وصيانته وترميمه وتنميته، وقبل ذلك، البحث في مكوناته وتعميق الأسئلة بصدد التأريخ الثقافي للجزيرة العربية».
للمشاركة في الحملة:
يمكن لكل من يرغب في المشاركة إرسال ما يريد التعبير عنه في فيديو أو صورة أو تسجيل صوتي أو رسالة مكتوبة إلى البريد الإلكتروني للحملة:
أو:
كما يمكن إضافة الاسم والمدينة ورقم الهاتف لمن يرغب بالتواصل معه مباشرة.
أو عن طريق الرابط التالي: