ونكبر..

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

وعلى أبواب عامٍ جديد.. نقفز فوق ذاك الوادي الضيّق السحيق الذي يدعوه الناس "رأس السنة"، لنعبرَ إلى الضفّةِ الأخرى من الوقت، إلى عامٍ جديدٍ نريدُه أجمل، نريد معه أن نكبر..
نقفز بكلّ أثقالنا، محمَّلين بقصصنا، بأحبابنا، بمشاريعنا، مدجّجين بما مضى من أيّامنا وبما نرجوه أن يأتي، لنكبر..
ونكبرُ بالفعل.. مع كلّ عامٍ جديدٍ نكبر.. فكيف نكبر؟
نكبر مع انتهاء كلِّ حلمٍ يتحقق فيصير واقعاً نعتادُ وجودَه حتى ننسى أنه كان يوماً ما أقصى طموحنا..
مع كلِّ حكايةٍ نستهلكُ قسطاً طويلاً من وقتنا لحياكةِ تفاصيلِها، وحين تكتملُ نعلّقها لوحةً على حائط عمرنا، متروكةً لغبار النسيان..
مع كلّ قصة حب فاشلة، نخسر معها جزءاً من إيماننا بجمال العلاقات الإنسانية وبجمالنا وبقيمتنا...
نكبر مع كلّ أمنيةٍ تحترق ببطءٍ وصمتٍ فتصيررماداً يتراكمُ في قاعِ روحِنا، ويعلنُ عنه إحساسنا الغامض بالاختناق كلّما ضعفنا..
نكبرُ مع كلّ تجعيدة حزنٍ عابرٍ ينحفرُعلى جبين أيّامنا، مع كلّ تنهيدة خيبةٍ تافهة لا نعترفُ بها رأفةً بأنفسنا..
نكبر.. ونترك خلفنا نسخاً عنّا في كل مكانٍ عبرناه وكلّ زمانٍ اختبرناه، نسخاً قد نعجز عن التعرّف إليها مع مرور الزمن ومرور التجارب والأشخاص.. نسخاً لا تشبهنا أحياناً، وتشبهنا بشدّةٍ أحياناً أخرى، تشبهُنا لدرجة أننا نكرهُها لأنها تذكّرنا بالشخص الذي لا نريد أن نكونَه فنرميه برصاصِ إنكارنا لننساه.
نكبرُ كلّما تركنا أجزاءً منا في كلّ مكانٍ غادرناه عنوةً رغم رغبتنا في البقاء.. ربّما في كتابٍ قرأناه وعشقنا أشخاصَه، ربّما في فيلمٍ أردنا أن نعيشَ كأبطاله، ربّما في مدينةٍ ممطرةٍ حلمنا بالعيش فيها، أو ربّما على شرفةِ منزلٍ قديمٍ مررنا بقربه وتمنّينا لو نلجُ بابَه ونشاطرُ سكّانه دفءَ الأنسِ والرفقة..
نكبرُ مع كلّ سنةٍ جديدة، وكلّما كبرنا، تصغرُ الدنيا في أعيننا.
نحن الذين نولدُ بآمالٍ شاهقة، أطفالاً نرى السماءَ شاسعةً بما يكفي لننسجَ لها ما نشاءُ من ألوان الغيوم ولنطرّزَها بما يحلو لنا من بريقِ النجوم.. نكبرُ كلّما شاخت غيمةٌ في سمائنا وهطلت على رؤوسنا دمعاً بلا لونٍ، وكلّما ذوَت في قلوبنا نجمةٌ ظننّاها ستبقى مشعّةً إلى الأبد..
نحن الذين كلّما ازداد عددُ أعوامنا وقلّت من حولنا أسبابُ الفرح.. نكبر كلّما نقصت هديّةٌ من تحت شجرتنا المزيّنة، وكلّما فرغَ مقعدٌ إضافيٌّ حول مائدة العيد في بيوتنا، وكلّما اضطررنا أن نتشاركَ قهوةَ صباحِ أعيادِنا عبر شاشةٍ افتراضيةٍ مع حبيبٍ طار نحو المقلب الآخر من الكوكب، إلى حيث تفصلُنا عنه قارّاتٌ وذكرياتٌ وتفاصيلُ عمرٍ كامل ٍغابرٍ لن يعود..
مع كلّ سنةٍ جديدةٍ، تتراكمُ خلفنا السنون، تتراكمُ القصصُ والمشاعرُ والأحلام، يتراكمُ الأشخاصُ والأحبابُ والأغراب، تتراكمُ لحظاتُ الفرح والحزن والأمل واليأس واللقاء والوداع. مع كلّ سنةٍ جديدةٍ، تتراكم خلفنا الحياة: "حياتُنا".. 
وكلّما طالت الطريق من خلفنا، قصُرَ ما تبقّى..
ونحن، بانتظار ما تبقّى، نتابعُ... ونكبر!