تفاصيل

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

تلك التفاصيل المبهرة..
تلك التفاصيل الصغيرة، التي قد لا يلتفتُ إليها أحد..
تلك التفاصيل البسيطة، المعتادة، التي تراها أرواحُنا قبل أعيننا، وتمنحنا المعنى الحقيقي للفرح، المعنى الحقيقي للحياة..
تلك الأصوات، المشاعر، الروائح، الألوان..
تفاصيلٌ، تفاصيل..
كصوتِ صرير مفتاحٍ يدور في قفل بابٍ يعلن قدوم الأب آخر النهار.. كصوت أولاد ذاك الأب وهم يهتفون باسمه ويتسابقون لعناقه وتقبيله عند العتبة..
كصوت قرقعة الملاعق والصحون خلف النوافذ المضاءة في عتمة المساءات المبكرة، كحجم الحب الهائل حول طاولات العشاء في تلك البيوت البسيطة..
كلمعة الفرحِ العارمِ في قلب أبٍ يحملُ هديّةً لابنه في طريق عودته مساءً أوّل الشهرِ..
كرعشة الحنين في عيني عجوزٍ تخبرُ حفيدتَها البكرَعن حبيبها الأول، ذلك الذي لم يعرف يوماً بحبّها، ذلك الذي لم تخبر عنه يوماً أيَّ أحد..
كدمعة السعادة على خدّ سيّدةٍ يخبرها طبيبُها نجاح حملِها الأوّل بعد طول انتظار..
كتورّد الحياة في وجوه الحوامل في العيادات النسائية، كشكلِ وعودِ الفرح القادم في استدارة أجسادهن..
كالسحر في عيني رضيعٍ ينظر في عيني أمّه ويبتسم للمرّة الأولى..
كرائحة إفطار الأمهات في الصباحات الباردة، كطعم قهوتهنّ المحلّاة بالحبّ..
كالبهجة في وجوهِ الأطفال في صباحات العيد..
كرائحة قماش أثواب العرائس، كالتماعة الأحلام في تطاريز طرحاتهنّ، كضجيج نبض قلوبهنّ عند الرقصة الأولى..
كنظرات الشوق في عيون المنتظرين في قاعات الوصول في المطارات، كلهفة اللقاء في عيون القادمين إليهم..
كنغمة السحر في صوت عاشقٍ كتم حبَّه طويلاً، كأريج العطرِ الفائحِ من بَوحِه المُنتظَر طويلاً..
كموجة دفءٍ غمرت قلبَ وحيدٍ ضجِرٍ سمع من خلف صقيع وحدته صوتَ رفيقٍ جاء ليؤنسه..
كنظرات الأمّهات المنتظرات خارج أسوار المدارس عند ساعة الانصراف.. كلهفة أطفالهنّ المندفعين من خلف تلك الأسوار..
كلذّة الشعورِ بالحرجِ من تسارعِ أنفاسنا عند لقاءٍ عابرٍ بحبٍّ قديم على ناصية المصادفة..
كدفء عناقات أصدقاءِ العمرِ، كحلاوةِ أحاديثِنا عن ذكرياتنا معاً، كلعلعةِ ضحكاتِنا عند استحضار الطفولةِ فينا كلّما التقينا..
كابتسامات الآباء الخجولة، كالدمعةِ المكبوتةِ خلف الفخر في أعراسِ بناتهم، كارتعاشةِ قلوبهم بين أصوات الزغاريد، كعذوبة تأرجح مشاعرهم بين البهجة والحزن..
كعروقِ أكفِّ الأجدادِ النافرةِ وهم يرفعون أحفادَهم فوق أكتافٍ أتعبتها الحياة، كأخاديدِ العمرِ المنحفرِ على جباهِهم حين يضحكون، كرنين تلك الضحكات عميقاً في ذاكرة أحفادهم مدى العمر..
كلونِ فستان اللّقاء الأول بتوأمِ روحنا، كوقعِ كلمةِ الحبّ الأولى في آذاننا..
كروعة صوتِ آذان الفجر مخترقاً غفوتَنا ومناماتِنا ودفءَ أسرّتنا بعذوبةٍ ورقّة.. كصوتِ أدعيةِ أمهاتنا الهامس على سجادة الصلاة  يغمرنا بالطمأنينة..
كموسيقى الحياة، تصدحُ في كلّ التفاصيل من حولنا..
تلك التفاصيل وغيرها.. التفاصيل التي لا نتوقّفُ عندها، لفرط اعتيادِنا عليها، لفرط استعجالِنا تخطّيها، لفرطِ اعتقادنا ببدهيّتها، لفرط غفلتنا عن جمالِها، جمال الحياة التي تصنعُه هي، تلك التفاصيل..