يُحتفل باليوم الدولي للأسر المُعلن من الأمم المتحدة في الخامس عشر من مايو، بهدف عكس الأهمية التي يوليها المجتمع الدولي للأسر، وإتاحة الفرصة لتعزيز الوعي بالمسائل المتعلقة بها، وزيادة المعرفة بالعمليات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية المؤثرة فيها. فالأسرة أساس المجتمع، لكن مع تراجع معدلات الخصوبة، وصغر حجم العائلة وتحولها من ممتدة إلى نووية، تكثر التحديات التي تُسلّط «سيدتي» الضوء عليها، في التحقيق الآتي..
أعدت الملف وشاركت فيه | نسرين حمود Nisrine Hammoud
بيروت | ماغي شمّا Maguy Chamma
جدة | أماني السراج Amani AL Sarraj
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad
للأم تيريزا قول بليغ، تقول فيه: «ماذا يمكنك أن تفعل لتعزيز السلام العالمي؟ اذهب إلى المنزل وأحب عائلتك». بالفعل، للأسرة وظروفها تأثيرات حاسمة على شخصية كل امرئ ومستقبله ومشاركته في المجتمع، مع ملاحظة أن تكوين أسرة أمر يتطلب الشجاعة والتضحية، لكن مهما عظمت الأخيرة، هناك ثمار يجنيها المرء عندما يكون على رأس أسرة، منها: الخلود. راهناً، ولّت الأيام التي يكثر فيها عدد أفراد الأسرة، الذين يتقاسمون العيش في منزل كبير متعدد الأقسام، ويتشاركون في الأكل على طاولات تضيق بهم أحياناً. وشيئاً فشيئاً، يتقدم نموذج الأسرة النووية، ويسيطر على المجتمعات العربية، مع كل ما يحمله ذلك من منافع ومشكلات. حسب «الإسكوا»، تُعرّف الأسرة النووية بـ«الأسرة التي تتكون كلية من نواة أسرية واحدة، أي أسرة تتألف من زوجين، أو من زوجين مع ابن أو ابنة، (بالدم وليس بالتبني)، أو أكثر، أو من أب (رب الأسرة) لديه ابن أو ابنة أو أكثر، أو أم (ربة الأسرة) لديها ابن أو ابنة أو أكثر، مع عدم وجود أي شخص من الأقارب الآخرين أو من غير الأقارب».
وفي الإطار الإجتماعي نقترح عليك متابعة تأخر الزواج وجهة نظر نفسية ومجتمعية
«الجماعة الأولى»
«الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمعات البشرية، ينمو الفرد ويتشبع بثقافة مجتمعه داخل الأسرة، ومن خلالها، فهي جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي يعيش فيه ويعايشه»، حسب وفاء بوكروش، الباحثة المغربية في علم الاجتماع، التي تستشهد بما قاله إيميل دوركايم في كتابه «مقدمة لسوسيولوجيا الأسرة» للإشارة إلى أن الأسرة «وحدة أساسية ومركزية للحياة داخل المجتمع، تسمح بجزء كبير من عملية إعادة الإنتاج الاجتماعية. فالأسرة هي الجماعة الأولى التي يتلقى الفرد التنشئة الاجتماعية داخلها، ويتعلم كيف يعيش داخل المجتمع». ومن أوغست كونت، تستعير الباحثة فكرة أن «الأسرة هي الخلية الأولى في جسم المجتمع، وهي النقطة التي يبدأ منها التطور وأول وسط طبيعي واجتماعي ينشأ فيه الفرد».
الأسر النووية والممتدة
وتُركّز بوكروش على أن «التطور الذي يعرفه العالم، اليوم، في الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والهجرة من الأرياف إلى المدن، يساهم في نقل الثقافات المختلفة بين المجتمعات، ويجعل العالم قرية صغيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تقارب الكثير من السمات المرتبطة بنمط الأسر في كثير من مجتمعات العالم، وإلى تغييرات على مستوى نوع وحجم الأسر، التي انتقلت من ممتدة إلى نووية». وتوضح: «يُقصد بالأسر الممتدة، تلك التي تتكون من شبكة كبيرة من روابط القرابة، علماً أن الشكل المعروف للأسرة الممتدة هو أنها تقوم على ثلاثة أجيال على الأقل، أي يعيش فيها الأجداد والآباء والأبناء معاً، حسب النمط السائد في غالبية المجتمعات التقليدية. بالمقابل، ينتشر نوع جديد من الأسر، هو الأسر النووية المكونة من الزوج والزوجة والأبناء، وهو النمط الشائع في الدول الغربية، وفي غالبية الدول العربية ودول الجنوب، حيث تتسم (النووية) باستقلالية في السكن والدخل وما إلى ذلك». حسب الباحثة، التحول من الأسر الممتدة إلى النووية، يتبعه حتماً تغيير في طبيعة العلاقات والأدوار والوظائف والرقابة والسلطة داخل الأسرة. كذلك، دخول المرأة مضمار العمل للإعالة أدى بدوره إلى نقص النشاطات التي تقوم بها الأسرة. بذا، أصبحت أعباء العمل المنزلي مسؤولية مشتركة بين الزوجين، وبات كل فرد في الأسرة ينظر إلى مصلحته وراحته، بمعنى سيطرة النزعة الفردية، أي أن سعادة الفرد تشكل الهدف الأسمى. ومعلوم أن الفردية تقوم على التحرر من الرقابة، وعلى حرية الاختيار والاستقلالية، الأمر الذي غير أهداف الزواج. باتت الأخيرة تتمثّل في الوقت الحاضر في الحصول على السعادة الشخصية، فلم تعد مصالح الأسرة هي الدافع وراء الزواج، وإنما مصالح الفرد ورغبته في الدعم الأخلاقي والعاطفي، ما يسهل القيام بوظيفة التنشئة الاجتماعية والتوازن النفسي، فضلاً عن توفر مناخ لنمو طاقات الفرد وشخصيته... هذه كلها عوامل تساهم في رفاهية الأسر النووية».
لكن ما تقدّم لا يخلو من أمور تحد من تطور الأسر النووية، منها: أسباب تتعلق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية، أي أزمة السكن وعدم قدرة الشباب على توفير مسكن، مع الغلاء الذي تشهده سوق العقارات وانتشار البطالة، ما يجعل الشباب غير قادرين على توفير مستلزمات الأسرة.
وفي سياق الحديث عن الأسرة نقترح عليك قراءة في يومها العالمي الأسرة..مركزٌ التفاعلات بين الأجيال
تحديات..
في إطار التحديات التي تعيشها الأسرة النووية، مع انشغال معظم الوالدين راهناً في العمل خارج المنزل لوقت طويل لتأمين متطلبات الحياة، تثير ستيفاني سرور، المعالجة النفسية اللبنانية، فكرة قلة الوقت المنقضي مع الأطفال خلال اليوم، الأمر الذي يحمل مترتبات نفسية على هؤلاء والوالدين، على السواء.
من ناحية الأولاد، ومع الغياب الطويل للأهل، يهتم شخص آخر بشؤون الصغار، ما قد يجعل التعلّق الذي يجب أن يكون تجاه الأهل يتوجه إلى المربية، مثلاً. في هذا الإطار، تُعلي المعالجة من أمر التعلّق في شخصية الطفل، أثناء مراحل نموه، فإذا لم يكن الشخص الذي يهتم بالطفل حنوناً بالقدر المطلوب وداعماً له، فيمكن أن تتأثر شخصية الطفل بشكل سلبي ويفقد ثقته بنفسه مع الوقت. لكن، لا يعني ما تقدم أنه ليس بإمكان الأهل أن يعوّضوا عن غيابهم عن البيت لوقت طويل. حسب سرور، من المهم للغاية أن يخصّص الأبوان 15 دقيقة في اليوم على الأقل، لقضاء وقت غني مع الطفل من دون أي ملهيات كالتلفون أو التلفاز، بحيث يكون اهتمامهما منصباً بالكامل على طفلهما، فيمكنهما اللعب معه، أو التحدث إليه، أو قراءة قصة له. أضف إلى ذلك، يمكن التخطيط مع الطفل مسبقاً لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، مع تحديد النشاطات والأماكن المرغوب زيارتها، ما يدفع الولد أو البنت إلى أن ينتظر هذا اليوم، ويعرف أنه حتى لو لم ير والديه كثيراً خلال الأسبوع سيقضي يوماً كاملاً معهما في نهايته. مهما كان دوام عمل الأبوين طويلاً، يمكن الاستمتاع بسهرة عائلية في يوم خلال الأسبوع، ومشاهدة فيلم عند المساء، أو مشاركة الطفل بلعبة معينة. أضف إلى ذلك، تفويت مشاركة الأبوين وجبة مع الطفل، يجعل من الوجبة التالية مناسبة للاجتماع على المائدة. لناحية الأهل، يشعر الأبوان بالذنب نتيجة غيابهما عن طفلهما، لذا هما يحاولان غالباً أن يعوّضا عن غيابهما من خلال شراء الهدايا والألعاب له، إلا أنه في الواقع ليس هناك ما يعوض عن وجود الأهل مع الأولاد، علماً أن الولد أو البنت بحاجة لسماع صوت أبويه والشعور باهتمامهما به. لذا، يمكن للأم والأب، خلال دوام عملهما، الاتصال كل ساعتين بالأبناء والاطمئنان عنهم، ما يشعرهم بالاهتمام. كما يترتب على الأهل أن يفسروا للأبناء أنهم يذهبون إلى العمل ليؤمنوا لهم حياة كريمة واحتياجاتهم ومتطلباتهم، بحيث يُقدّر الصغار تعب الأهل.
وعلى الأهل أيضاً أن يعرفوا أن أولادهم لن يشعروا بأنهم مختلفون عن أقرانهم، لأن معظم الآباء ملتزمون بالعمل خارج المنزل بسبب متطلبات الحياة. المهم هو تمضية وقت ثمين مع الطفل، وعدم الإغفال عن حضور أي مناسبة تهمه (مشاركته حفلة نهاية العام في المدرسة، مثلاً، أو هواية معينة، أو لعب كرة القدم...)، فليس هناك ما يعوض عن وقت الأهل مع الطفل. على الرغم من صعوبة الحياة، يجب أن يضحي الأبوان، مع تحقيق التوازن بين حياتهما العملية والعائلية لتأسيس أسرة صحية وسعيدة.
النظرة المادية
عن الضغوط التي تعيشها الأسرة، راهناً، تتحدث د. مها أحمد حريري، الاستشارية النفسية والاجتماعية، لـ«سيدتي»، فتقول: إن «أولى الضغوط، التي تواجهها الأسرة السعودية، تكمن في تكوين هذا الكيان، أي اختيار الشريك المناسب وتحديد مدى ملاءمته للآخر، على الصعيد الفكري، سواءً في درجة التعليم، أو الخلفيّات الاجتماعية والاقتصادية والدينية، إضافةً إلى بُعد النظر والطموح والقدرة على التطوير، ليتمِّم هذه الشراكة المقدّسة، وبالتالي بناء أسرةٍ مستقرَّة». وتُعلّق الاستشارية أهمية على كل من سلام الأسرة واستقرارها، لتصبح جاهزةً للتكيّف مع الضغوط الخارجية، أي الصلابة في مواجهة التطور السريع في المجتمع، والتركيز على الواجهة الشكلية الظاهرية، لتكون العائلة محطّ أنظار الباقين. وتفصّل الفكرة، قائلة إن «محور اهتمام الأسر راهناً، هو الشكل الخارجي، والتركيز على كماليات الحياة من منزلٍ وسيارةٍ وأدواتٍ معيشيةٍ ورفاهيةٍ خاصةً بالسفر والتنقّل والذهاب إلى المطاعم، بتأثير من مواقع التواصل الاجتماعي (سناب شات وإنستجرام وفيسبوك)، الأمر الذي يزيد الضغط والإرهاق على عاتق الوالدين لمواكبة هذه المظاهر المتغيّرة بحسب الزمان والمكان، ناهيك عن مصاريف المدارس، التي لا بدّ أن تليق بالواجهة الاجتماعية لكل عائلةٍ، وهذا الأمر مكلف ماديّاً. لذا، يجب على كل فردٍ أن يبدأ بنفسه، ويُغيّر نظرته للإنسان الذي اكتنز خيرات الدنيا بفضل الله». وعن مستقبل الأسر السعودية، ترى الدكتور مها، أن «المستقبل إلى نماءٍ وتطورٍ، في إطار الأسر السعودية والخليجية، فقد أصبح الفرد السعودي أكثر وعياً ونضجاً وقدرة على الاطلاع والتعلّم ومجاراة الأحداث من حوله، ويرجع ذلك إلى انفتاحه على العالم، ما أوجد الآفاق الفكرية المتحرّرة والمُتقبّلة، وهذا الأمر مهمٌّ جداً في البناء والتطوير».
يمكنك قراءة المزيد عن 5 كتب مهمة عن بناء الأسرة المترابطة