السعادة مفردة بمعان كثيرة

السعادة مفردة بمعان كثيرة
السعادة مفردة بمعان كثيرة

«خلي السعادة عادة»؛ العبارة التي تحملها لوحة مثبتة على الجدار، في مقهى بيروتي، تدعو إلى التأمل، والسؤال عن ماهية السعادة؟ هل هي تلك اللحظات المسروقة من حمأة الحياة، حينما يتخفف المرء من «الموبايل» ويغوص أكثر في ذاته؟ هل مفهوم السعادة ذاتي؟ هل تدوم السعادة أم أنها لحظات تنقضي سريعاً؟ هل يختلف مفهوم السعادة من جيل إلى آخر؟ هل السعادة نسبية حسب ثقافة وموروث كل شعب؟
أسئلة وأسئلة تنطلق من مفردة السعادة ذات المعاني الكثيرة حسب مضمار الباحث الذي يغوص في المفهوم.



أعدت الملف وشاركت فيه | نسرين حمود Nisrine Hammoud

بيروت | ماغي شمّا Maguy Chamma - تصوير | محمد رحمة Mohamad Rahme

الرياض | محمود الديب Mahmoud AlDeep

الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad





السعادة أشمل من أن تعرف، ولكل مفهومه عنها، حتّى الفلاسفة في أزمنة مضت، وحينما غاصوا في مسألة السعادة لم يتوافقوا. حسب بوذا «لا طريق يقود إلى السعادة؛ ذلك لأن الأخيرة طريق بذاتها»؛ بمعنى أن من يشعر بالسعادة أكثر من غيره، هو الذي يجد المتعة في الحياة ذاتها وليس في تحقيق هذا الهدف أو ذاك.

بين الفضيلة واللذات

عند الفلاسفة في العصور القديمة والوسطى، تراوح مفهوم السعادة بين الفضيلة واللذّات، تمثلت فكرة السعادة عند سقراط، في النقاط الآتية: كل البشر يرغب في السعادة، التي يمكن تحصيلها عن طريق بذل بعض الجهد، فالسعادة لا تقوم على أمور خارجية، بل على كيفية استخدام هذه الأمور؛ أي على تعليم الروح كيف تتوافق مع رغباتها، وتعيد توجيه نظرتها بعيداً عن الملذات الجسدية إلى حب المعرفة والفضيلة.

حسب أفلاطون، السعيد هو الإنسان الشريف الصالح العادل. أرسطو، بدوره، رأى أن السعادة أقصى طموح البشر والغرض النهائي للوجود الإنساني، وأن بلوغ السعادة يتحقق عن طريق ممارسة الفضيلة وتنمية الحكمة الشخصية والحظي بحظ سعيد. الفلسفة الكلبية اعتقدت أن نيل السعادة يأتي عبر التدريب الصارم ورفض كل الرغبات المألوفة، وتفضيل عيش حياة خالية من كل المتع. أمّا أبيقور، رمى إلى أن التوازن والاعتدال يعبد طريق السعادة؛ أي إمتاع المرء لنفسه في حدود الملذة السليمة الشرعية الضرورية. نيتشه المتشائم، رأى في السعادة قوة حيوية وروح نضال ضد كل العقبات التي تحد من الحرية وتأكيد الذات. حسب توما الإكويني في العصر الوسيط، فإن الله هو الوحيد الذي يُشبع إرادة الإنسان، والذي يجد فيه سعادته الحقيقية.

عند الفلاسفة من المسلمين، نقرأ أن الفارابي اختصر السعادة بالخير والغاية العليا، كما هو الأمر عند أفلاطون وسقراط، فيما ابن سينا نفى الرابط بين اللذات الحسية والسعادة، ورأى أن اللذات المذكورة لحظية. الإمام الغزالي، بدوره، يقول «إن اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل».

يوم السعادة العالمي

في الزمن الحالي، تحتفي الأمم المتحدة باليوم الدولي للسعادة منذ عام 2013، وذلك في العشرين من مارس، وترى في هذا اليوم سبيلاً للاعتراف بأهمية السعادة في حياة الناس في كل أنحاء العالم. الجدير بالذكر أنه من بين أهداف المنظمة الدولية القضاء على الفقر، وخفض درجات التفاوت والتباين بين البشر، وحماية الكوكب، وهي أهداف يمكن أن تؤدي إلى الرفاه والسعادة.

إلى ذلك، تصدر الأمم المتحدة تقريراً سنوياً يصنف الدول في قائمة تنازلية من الأكثر سعادة إلى الأقل سعادة، للعام السادس على التوالي (2023)، تصدرت فنلندا الجدول المذكور، فيما حققت دول عربية مراتب متقدمة، مثل: الإمارات العربية المتحدة التي حجزت المرتبة 26، والمملكة العربية السعودية التي حلت في المرتبة 30، والبحرين في المرتبة 42. يتكئ التصنيف على مؤشرات عدة، منها: متوسط عمر الأفراد، والصحة العامة، والحالة النفسية، وظروف العمل، وتوافر فرص العمل، والدعم الاجتماعي الذي تقدمه الدولة، ومدى مكافحة الفساد، والناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، ومدى تحقيق التوازن بين الحياة الاجتماعية وتلك العملية.

الجدير بالذكر أن جمهورية بوتان، الواقعة في الجزء الشرقي من جبال الهيمالايا، التي تسكنها غالبية من البوذيين، تشتهر بقياس جودة الحياة من خلال السعادة القومية الإجمالية، بدلاً من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما ألهم المنظمة الأممية لإقرار يوم السعادة العالمي.

تابعي معنا كيف تجد مصادر السعادة؟

المفهوم معد

سلطانة العمري

عن السعادة، تتحدث سلطانة العمري، سفيرة السعادة السعودية من فيدرالية أصدقاء الأمم المتحدة، فتعرف المفهوم، قائلةً إنه «شعورٌ بالرضا، ينبع من داخل الإنسان، ويحقق من خلاله العطاء لذاته أولاً، ثمّ الآخرين، وهذا ما يرسم رحلته للسعادة، في كل المراحل العمرية، ويقرّر بناءً عليها أن يكون سعيداً مهما صادفته من تحدياتٍ وصعوبات؛ إذ يستطيع بالرضا والشعور الإيجابي، أن يتخطى كل ما يواجهه، قبل أن يبدأ بتحسين جودة الحياة في كل الجوانب». وتعلي السفيرة من شأن السعادة الداخلية، بالقول: إن «محاولة إسعاد الآخرين هو أقصر الطرق لإسعاد النفس والشعور بالتفاؤل والأمل وبهجة الحياة».

عن دور سفيرة السعادة، توضح العمري أن اللقب يشرفها، ويضع على عاتقها مسؤولية نشر السعادة بطريقة صحيحة؛ أي تطبيق أفضل الممارسات على المستويين المهني والمجتمعي، وتنظيم وإطلاق الأنشطة والمبادرات الاجتماعية الهادفة، والإسهام بشكلٍ فاعلٍ في إسعاد المجتمع عبر المنصات المختلفة العائدة إلى مجالات شتى. تقول السفيرة لـ«سيدتي»: إنه «من خلال الإيجابية والإلهام، يمكنني أن ألعب دوراً محورياً في نشر السعادة داخل الدوائر الاجتماعية التي أعيش فيها، وأستطيع التأثير فيها، فالسعادة مُعدية، ولها تأثير إيجابي».

 

المجتمع السعودي

الشعب السعودي محظوظ حسب السفيرة؛ لدى أفراد المملكة كل مقومات السعادة، والقيادة الرشيدة التي تهتمّ بالمواطن وسعادته، وقد تجلَّى ذلك منذ الإعلان عن رؤية السعودية 2030، ففي تقديم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لبرامج الرؤية، أكد أن «طموحنا أن نبنيَ وطناً أكثر ازدهاراً يجد فيه كل مواطن ما يتمناه، فمستقبل وطننا الذي نبنيه معاً، لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم، بالتعليم والتأهيل، بالفرص التي تتاح للجميع، والخدمات المتطورة، في التوظيف والرعاية الصحيّة والسكن والترفيه وغيره».

وتبين العمري أن «برنامج جودة الحياة، أحد برامج الرؤية، يقيس مدى التقدم في جودة حياة المواطن عن طريق ظروف العيش من أجل حياةٍ جيدة، ونمو الحياة بتوفير خياراتٍ للناس، لتكون لديهم حياة ممتعة من خلال حملات وبرامج، تعمل على بث الروح الإيجابية، وتقديم النصائح والتجارب والإرشادات»، مشيرةً إلى أن «تقرير السعادة العالمي، يكشف تقدم السعودية إلى المركز الثاني بين دول العالم في مؤشرات جودة الحياة وجوانب الحياة المختلفة».

أجيال...

هل ينظر الجيل الجديد نظرة إلى السعادة مغايرة عن آبائه وأجداده؟

تجيب السفيرة، قائلة إن «معايير النشء مختلفة عن آبائه، فالشهرة في الوقت الحالي هاجس الكثيرين ومعيار من معايير السعادة. إلى ذلك كلما كان نمط حياة المرء جنونياً وسريعاً وكثير السفر والتنقل، يصنف النشء هذا المرء بأنه من السعداء»، مثيرة نقطة مفادها أن «مفهوم السعادة يتأثر بجوانب عدة، منها ما هو ثقافي ومادي وتكنولوجي. بعد أن كان كل من الاستقرار والروابط والتجمعات العائلية مصدراً لسعادة جيل الأمس، لم يعد لذلك أثر كبير مع التقدم التكنولوجي وتطور وسائل التواصل الاجتماعي». وتلفت إلى أن «مقاييس السعادة تختلف من جيل إلى آخر، ومن شخص إلى آخر، فهناك من يسعد بأي شي يقدم له، بينما نجد مفهوم السعادة عند آخر في أشياء كبرى تسهم في تحقيق إنجازاته...».

 قد يهمك التعرف إلى أثر السعادة عليك لذا ننصحك بمتابعة فوائد الضحك النفسية والجسدية لا تصدق

ثقافات

سندس صبري

إضافة إلى اختلاف المفهوم حسب الأجيال، تسلّط سندس صبري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، الضوء على كيفية فهم الشعوب للسعادة، تبعاً لاختلاف ثقافات الدول، ومستويات الرفاهية في كل دولة على حدة. تقول الأستاذة الجامعية إنه «في الدول الإسكندنافية؛ حيث مؤشر السعادة مرتفع، ترتبط السعادة بثقافة الحق في الطبيعة؛ حيث يعطي كل شخص لنفسه الحق في الاستمتاع بالطبيعة، شريطة الحفاظ على البيئة وعدم إيذائها، وهو الأمر الذي يحيلنا إلى حقيقة علمية تقر بأن التصالح مع الطبيعة، مثل: المشي في الهواء الطلق أو على الرمل أو العشب من دون عوائق، واستنشاق الهواء النقي، والاستمتاع بضوء أشعة الشمس يحسن المزاج لا محالة ويمنح السعادة». وتضيف أن «الدول الآسيوية، من جانبها، تربط السعادة بالطمأنينة والسكينة، فيما دول أميركا الشمالية تجد أن المتعة الحقيقية تكمن في الأحاسيس القوية والحركية الفائقة. في هذا الإطار، نجد مفهومين متباعدين، إن لم يكونا متناقضين لمسببات السعادة، إلا أن لكل منهما نصيب من الصواب». وتتابع الأستاذة الجامعية الحديث عن السعادة والشعوب، فتلفت إلى أن «مفهوم السعادة نسبة إلى سكان جزر هاواي، يرتبط بثقافة Ho oponopono؛ أي بالاعتراف والتسامح والشكر والحب، أمّا في الدنمارك فتسمى السعادة «هيغ» منذ زمنٍ بعيد. ثقافة «هيغ» أساسية في حياة الشعب الدنماركي، وقد ظهرت للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، وهي تمثل بشكل عام الشعور بالراحة والرفاهية. لقد أجمع كثيرون على أن ثقافة «هيغ» التي تشجع على خلق مناسبات الاسترخاء والاحتفال والعمل الجماعي والاستجمام سبب سعادة الشعب الدنماركي الذي يتصدر قائمة الأكثر سعادة».

في سياق مختلف تماماً، في إسبانيا، البلاد التي يعرف شعبها بحب الاحتفال والسهر، نجد ممارسة اجتماعية تسمى la siesta أو القيلولة يمنح فيها الشخص لنفسه الحق في استرجاع ساعات النوم المسروقة. وقد أكدت دراسات أجريت خارج المجتمع الإسباني أيضاً، دور احترام ساعات وجودة النوم في تحقيق السعادة، حسب الأستاذة الجامعية. وتشمل الأخيرة دول جنوب أفريقيا في مطالعتها عن السعادة والشعوب، فتقول إن «أوبونتو» يجسد المفهوم، وهو أفضل الطرق لتعزيز اللطف. يعبر عن المفهوم من خلال الإنصاف والتسامح والتضامن تاريخياً. وقد نشر مصطلح «أوبونتو» مجتمع الزولو بجنوب أفريقيا. الجدير بالذكر أنه ثبت علميّاً دور نسج علاقات اجتماعية إيجابية في تحسين المزاج.

في اليابان، تسمّى السعادة «أوموتيناشي»؛ أي حسن الضيافة والاعتناء ببعضنا البعض من خلال الكرم والأدب. وفي أميركا الجنوبية، هناك عرف الشاي الماطي Herba mate؛ حيث إن احتساء هذا المشروب يكفي لخلق لحظة سعادة غامرة. أمّا من ناحية الأتراك، مثلاً، فهم عرفوا بممارسة الكييف Kief، التي يقصد بها التوقف للتأمل والتمعن. الجدير بالذكر أن كل دروس التنمية الذاتية يحث على دور التأمل الناجع في محاربة التوتر وتحقيق الشعور بالاسترخاء والسعادة. تخلص الأستاذة الجامعية إلى الآتي: «صحيح أن الشعوب تختلف في إعطاء مفهوم موحد للسعادة، لكن الناس يتلاقون في الاعتراف بأهميتها في رحلة البحث عنها واستكشاف مغاورها».

 

علم النفس

الدكتورة رنا حداد

عن السعادة من وجهة نظر علم النفس، تتحدث الدكتورة رنا حداد، الاختصاصية في علم النفس والمعالجة النفسية والأستاذة الجامعية، فتلفت إلى أن مفهوم السعادة يرتبط بمفاهيم أخرى، هي الرضا والوعي والامتنان. تشرح المعالجة أن «السعادة عبارة عن حالة شعورية بالرضا التام جراء تحصيل الحاجات الإنسانية الأساسية للحياة، الحاجات التي صنفها عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو على هيئة هرم متعدد المستويات من الأهم إلى المهم». حسب «الهرم، تأتي الحاجات الفسيولوجية من جوع وعطش ونوم، أولاً، يليها الأمان، سواء الجسدي أو النفسي أو المالي، فالانتماء والحب. في المستويين الرابع والخامس، هناك تقدير الذات وتحقيق الذات، على التوالي، علماً أن تحقيق الذات يشير إلى شعور الفرد بأهمية قدراته، توضّح د. حداد أن «الحرمان من هذه الحاجات يمنع الإنسان من تحقيق الشعور بالسعادة. لكن، إشباع كل الحاجات المذكورة آنفاً بالمقابل، ليس سبباً كافياً لإسعاد المرء، بل جزئياً. من هنا، تأتي أهمية الرضا». بتعابير أخرى، وبالاتكاء على أفكار المحلل النفسي سيغموند فرويد، تلبية الحاجات المذكورة آنفاً قد لا تشعر بالسعادة. لبلوغ الغاية، يجب أن يدرك المرء أهمية الرضا بهذه الحاجات.

إلى ذلك، تبرز المعالجة أهمية الإدراك والوعي؛ إدراك المرء أنه من المهم أن يحافظ على السعادة حتى تدوم. كما هي تربط السعادة بالامتنان، فهذا المفهوم الأخير أساس للشعور بالسعادة، علماً أن الامتنان لا يأتي بالفطرة، بل يمكن للفرد أن يدرب نفسه مع الوقت على هذا الأمر.

مقام السعادة

مهند الحمدي

عمّا إذا كان المال والشهرة شرطين أكيدين لبلوغ مقام السعادة، يتحدّث الممثل السعودي مهند الحمدي لـ «سيدتي»: لم يكن طريق الفن في حياة الشاب السعودي معبداً بالورود، فهو فقد الأمل مراراً بتحقيق الحلم الفني، لقلة الفرص عندما كان في سن الدراسة. لكن، عندما بلغ الشهرة في المجال، لم ير فيها سعادة مطلقة، خصوصاً بعد أن نضج، على الصعيدين العمري والفني. راهناً، لا يكترث الحمدي بالشهرة، بل يهدف إلى تقديم محتوى ينال إعجاب الناس.

يقول: «السعادة نسبية، فليس هناك إنسان سعيد أو حزين بالمطلق، هناك تقلبات دائمة في الحياة. لذا، على الفرد أن يرضى ويتعايش مع واقعه». ويضيف أن السعادة في «قاموسه» ليست مشروطة بنجاح كبير أو مال وفير، بل ربما بابتسامة من متابع له.

وعن دور المال في حياته بعد الشهرة، وهو الذي كان يتحدّر من عائلة متوسطة، يقول إن «أحلام وطموحات الفرد تفوق قدراته.. حتى الغني يطمح إلى الأكثر»، مضيفاً أن الشهرة لم تجعل منه إنساناً ثريّاً بخلاف اعتقاد العامة أن الممثلين والممثلات في بلادنا ينعمون بحياة مترفة. يفصل الممثل فكرته عن المال قائلاً: إن «المال مصدر أساسي للعيش؛ من الجذاب أن يصبح المرء غنياً ويمتلك الكثير من المال. لكن، لا رابط بين المال والسعادة. بتعبير آخر، ليست الفلوس وسيلة إلى السعادة، بل إلى الحرية الذاتية التي أطمح للوصول إليها يوماً ما».

وللباحثات عن السعادة إليك  لائحة عادات صغيرة تقودك لحياة سعيدة