عن الوحدة..

مها الأحمد 
مها الأحمد
مها الأحمد

"يميلُ الوحدانيون إلى الشعورِ بالوحدةِ، لأنهم يرفضون تحمُّلَ الأعباءِ النفسيَّةِ لوجودِ البشرِ من حولهم، فلديهم حساسيَّةٌ من الناسِ، ويؤثِّرُ الناسُ فيهم بشدَّةٍ".

ديفيد فوستر

ماذا لو أننا استيقظنا فجأةً، وبشكلٍ جماعي وقد فقدَ العالمُ ذاكرتنا، ونسينا، فلا نعرفُ أحداً، ولا يعرفنا أحدٌ، ولم نكتشف بعد طريقةً للتعرُّفِ على ذاتنا، ولا حتَّى عن طريقِ الآخرين، فهم أيضاً لم يعد لذواتهم أي دلالاتٍ؟!

لم يعد لأحدٍ منَّا قيمةٌ، جُرِّدنا من الشهاداتِ الكثيرةِ المتراكمةِ، والخبراتِ التي اكتسبناها، والإنجازاتِ التي سُجِّلت، وحجبت عنَّا الرؤيةَ، وتلك النجاحاتُ التي حصلنا عليها بتدخُّلٍ من الصدفةِ، أو بعد مجهودٍ ومحاولاتٍ عدة، والمناصبُ، والمسمَّياتُ التي كرهها بعضهم، ولهث وراءها آخرون، واكتشفها على حقيقتها قلَّةٌ قليلةٌ من البقيَّة.

في هذه الحالةِ كيف سيكونُ شكلُ العالمِ الذي سيجمعنا تحتَ سقفه؟! وما أوَّلُ ما سنسعى إلى تحقيقه؟! وما الصفاتُ التي سنختارها لأنفسنا وللآخرين الذين سنتعرَّفُ عليهم؟! وما هويَّةُ الأشخاصِ الذين سنفتقدهم، وسنسعى لإيجادِ بدائلَ لهم؟! وما المعاييرُ الجديدةُ التي سنضعها لاختياراتنا بعد أن مُنحت لنا الحريَّةُ المُطلَقةُ بالاختيارِ والمسؤوليَّةِ، قبل أن يضعَ لنا المجتمعُ قائمةً بالخياراتِ المتاحةِ، ويوهم الأحرارَ بأنهم حصلوا على هذه الحريَّةِ رغماً عنه، وهم في الحقيقةِ، سُلبوا منها ومن إرادتهم، وحُبِسوا في إطارٍ، يدعى الإطارَ المجتمعي العامَّ الذي عاشوا فيه دون وعي، وبدأ ينتشرُ، ويتغلغلُ، ويُشوّه، ويلتصقُ بكلِّ فكرةٍ، وكلِّ مشهدٍ، وكلِّ رغبةٍ وطموحٍ وعلاقةٍ، حتَّى إنه وقف متربِّصاً بالأحكامِ التي سنُطلقها على الآخرِ ليتأكَّدَ من أنها تتناسبُ مع رأيه وتوجُّهه؟!

في هذا العالمِ الجديدِ الذي يخلو حتَّى من المثاليَّةِ بعد أن أصبحنا متساوين تماماً، هل سيكونُ هناك أشخاصٌ يعانون من الوحدةِ إثرَ تغيُّرِ العواملِ الخارجيَّةِ التي كانت تزيدُ الوحيدين وحدةً؟!

أم ستكونُ هناك فرصةٌ جديدةٌ ليعيشوا حياتهم دون أن يشعروا بأن هناك ما يهدِّدهم، بل على العكسِ، فإنَّ العالمَ، أعلنَ حاجته إليهم، وتمَّ انتفاءُ التمييزِ والتفاوتِ بينهم وبين الآخرين، فعادت إليهم ثقتهم التي لطالما كان لها علاقةٌ عكسيَّةٌ على وحدتهم "فكلَّما قلَّت الثقةُ، زادت الوحدانيَّةُ ومشاعرها".

يا ترى، هل سيسهلُ عليهم في هذه الحالةِ الانفتاحُ على الآخرِ، وتكوينِ علاقاتٍ دون خوفٍ؟! وهل سيصبحُ في مقدورهم أن يُظهِروا الحبَّ، والصداقةَ، ورغبتَهم فيهما؟! وهل سيُشفى ألمهم الذي كان السببَ في حرمانهم من الحاجاتِ الإنسانيَّةِ حتى أصبح الجوعُ العاطفي يأكلهم من الداخلِ دون أن يُشبعوه؟!

أم أن الشعورَ بالوحدةِ سيباغتهم مرَّةً أخرى، لأنهم يبحثون عنه من الداخلِ، ويتجذَّرُ فيهم، أمَّا العواملُ الأخرى الخارجيَّة التي نتحدَّثُ عنها فمجرَّدُ أحداثٍ، وأشكالٍ ليس لها تأثيرٌ، وحتَّى إن وُجِدَت، فهي ضئيلةٌ للغاية.