عملية التواصل بين أفراد الجماعة التي تشكل ثقافة واحدة، تتم عبر تمثل الشفرات التي تقوم عليها بنية الثقافة، فإذا انتقل فرد من ثقافة إلى أخرى فلا يكفيه تعلم اللغة الطبيعية في تلك الثقافات، لكن لابد لكي تكتمل معرفة الآخرين من الإلمام برموزهم، وشفراتهم الفاعلة، شفرة الإيماءات مثلاً تختلف من ثقافة إلى أخرى فالهنود يهزون رؤوسهم من اليسار إلى اليمين للتعبير عن الرضا، على عكس الثقافات الأخرى التي تعني عندهم هذه الإيماءة النفي، والطريف ما يتعلق بالقبلات، في عاداتنا العربية يمكن للرجل أن يقبِّل صاحبه عند اللقاء، في أوروبا والغرب عمومًا إذا قبَّل الرجل صاحبه، أو إذا مشى متأبطًا ذراعه فهذا يعني أنهما شاذان، وفي الغرب يقبِّل الرجل يد المرأة علامة الاحترام، أو وجنتها علامة على المودة، أما في واقعنا العربي فهذا مستهجن وربما يؤدي إلى المشاكل، ولا يقبِّل الرجل المرأة إلا في الشرائح العليا المتفرنجة، وفي الغرب إذا قبَّل الرجل المرأة في شفتيها، وبادلته فهذا يعني أول الوصال، والاندماج، أما إذا كانت القبلة على الجبهة فهذا يعني الحنان المجرد، وغالبًا ما يكون ذلك صادرًا من أحد الوالدين إلى أحد الأبناء.
الألوان مثلاً جزء من الشفرة الاجتماعية، في الصين يعتبر اللون الأبيض رمزًا للحزن، والحداد، تمامًا كما كان الأمر في مصر القديمة، إذْ كان أوزير سيد العالم الآخر، يصور دائمًا في لباس أبيض، يحيط جسده بمثابة كفن، ولكن رمز الموت الآن هو السواد، ورمز العنف الأحمر لون الدم، والسلام الأخضر، كما أن الرمز يمكن أن يكون دينيًّا أيضًا، فالسواد كان شعار العباسيين، والبياض كان شعار الأمويين، والأخضر كان شعار آل البيت، وهو الآن في مصر رمز للصوفية، ورموز الألوان عالم قائم بذاته، ولكنني ضربت تلك الأمثلة من وحي تلك الدراسة الممتعة العميقة، لا تتوقف صاحبتها الدكتورة سيزا قاسم عند المصادر الغربية فقط، إنما تكشف عن ثقافة تراثية عميقة، عندما تذكر دلالات الصمت، كما ذكرها الجاحظ في «البيان والتبيين» في فصل خاص أورد فيه حالات الصمت، وتفسيراتها، فقد يكون علامة على الرضا، والقبول، وقد يكون علامة على السخط وكظم الغيظ، واعتبره ابن المقفع نوعًا من البلاغة عندما سألوه عنها فقال: «البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع».
الصمت مثل الكلام، له وظيفة دلالية، فيكون بليغًا إذا كان قادرًا على الإشارة إلى معنى من المعاني، مثل الرضا، أو السخط، كما أن درجة الصوت لها دلالة، فأمام أولي الأمر، وأصحاب السلطة يكون هناك صوت ذو طبقة معينة، يمكن للصوت الذي يخيَّل إلينا أنه مجرد أن يحمل من الشفرات والدلالات ما يؤدي إلى نتيجة معينة، درجات الصوت لها معنى، وفي أحاديثنا نسمع أحيانًا من يقول: «رفع صوته عليه» علامة الجرأة، والتهور، أو نقص التربية، كما أن الأصوات نفسها تختلف من حيثُ الدلالة، فالصفير عندنا خلال المباريات الرياضية، خاصة كرة القدم يعتبر علامة تشجيع وإعجاب، وفي بلاد أخرى يعتبر علامة سبٍّ وسخط، وإذا كان الرقص يعني عند كثير من الشعوب البهجة، والفرح بالحياة، فإنه يعني في مصر القديمة، وبعض شعوب إفريقيا دلالة على الحزن الذي يفقد الصواب، وقد رأيت يومًا مجموعة من النساء يرتدين الملابس السوداء، يخرجن من إحدى حارات القاهرة الشعبية، وهن يتمايلن في حركات منبعثة عن داخلهن، رافعات الأيدي، هذه الحركات تتشابه مع الرقص الذي نراه في الأفراح، ولكن لأن الوقت كان نهارًا في الصباح الباكر، ولأنهن في جمع، ولأن بعضهن كن يلطخن وجوههن بالنيلة الزرقاء أصبح مشهدهن معبرًا عن الحزن الدفين.
تلك دلالات استعدتها بعد قراءة هذا البحث الممتع للدكتورة سيزا قاسم، والذي لم أعانِ على الإطلاق في قراءته، نتيجة استيعاب المؤلفة لأحدث المناهج، وللتراث القديم وهضمها جيدًا، إضافة إلى القدرة على العرض، وبسط الأفكار المعقدة للقارئ في مستوياته المختلفة بأسلوب واضح، إن الكتب الجيدة تساعدنا على فهم كثير من ظواهر الحياة، وتجعلنا نكتشف في العادي ما كان خافيًا علينا، وعلم السيموطيقا يساعدنا على ذلك، ولكم أفضل مصطلح الدلالة، أو الدلالات على السيموطيقا، فللمصطلح أصداء يونانية قديمة، ولكنني أستعيد ما ذكرته عن المفكر أحمد لطفي السيد رئيس المجمع اللغوي، فأقول، سيموطيقا، سيموطيقا، مادام البحث الذي قدمته الدكتورة سيزا قاسم عميقًا، سلسًا يشرح، ويفسر، ويساعدنا على فهم غوامض الحياة.
للتفاعل مع الكاتب [email protected]