قالها بغصّة.
الأديب العلاّمة جبران مسعود.
وقالها في وداع دارٍ أسّسها في العام 1965، ويُضطرُّ اليوم الى إقفالها؛ وعنوانُها: بيتُ الحكمة.
<<<
وهي دار النشر التي تولّتْ، منذ إنشائها، اختيار الأدب النديّ، تقدّمه للفتيان والفتيات في الصفوف المتوسّطة.
<<<
وقبل الكلام عن أهمّية ذلك الأدب في تنشئة الأجيال الطالعة. وفي تقريب اللغة العربية وثقافتها من ذائقة الطلاّب، سوف أتحدّث عن الرجل. وهو واحد من الناس الذين يعملون بصمت، وبعيداً عن صخب الإعلان والدعاية: جبران مسعود، وهو صاحب «الرائد»، القاموس العربي الشهير، وقد كان، ولا يزال، رائداً في تبسيط اللغة العربية.
<<<
ومن بعض تقديمه لهذا العمل الجبّار أقتطف قوله: «إن وضع معجم عصري يُحدث انقلاباً في المظهر، ويساعد على تطوير الجوهر. معجم عصري تُثبََت فيه الكلمات وفقاً لحروفها الأولى... ولا يكون الشرح فيه أصعب من الكلمة المشروحة».
<<<
ومن بعض ما دفعه الى وضع ذلك القاموس المعاناة التي عرفها عندما باشر تدريس اللغة العربية في مطلع الشباب. فقد لاحظ، في حينه، أن الكثيرين من التلامذة يُحْجمون عن المطالعة ممّا دفعه الى التفكير بمشروع رائد آخر، وهو إنشاء دار تُعنى بنشر القصص والروايات الموجّهة للمرحلة المتوسّطة من الدراسة؛ فكانت مؤسَّستُهُ للنشر وعنوانُها: «بيت الحكمة». وقد تولّتْ منذ خمسة عقود، طباعة ونشر هذا الأدب، وحثّ الأدباء المعروفين على كتابته، أو اختيار نصوص وقصص من أعمالهم، وتتلاءم مع تلك المرحلة من الدراسة.
<<<
وكان لي نصيبٌ من ذلك المشروع عندما اختار صاحب الدار عشراً من قصصي نشرها في كتاب عنوانه «جزيرة الوهم». وقد أُعيد طبع تلك المجموعة عدّة مرّات.
وربما كان ذلك التواصل مع القرّاء الشباب هو ما جعلني أفكّر، لاحقاً، بكتابة القصّة والرواية الموجّهة الى الفتيان، شعوراً منّي بالحاجة الى ذلك الأدب، يُحبِّبُ التلامذة بلغتهم الأم، فلا تبقى عصيّةً، وبعيدةً عن مسارهم.
<<<
والآن، صاحبُ الدار يُعلن إقفالَها؛ ومعها المكتبة التي تحمل إسمها؛ وبذلك ينضمّ الى ظاهرة إقفال المكتبات في بيروت، وفي سنة اختيار هذه المدينة، من قِبَل منظّمة اليونسكو «عاصمة عالمية للكتاب».
<<<
ومن قبل كانت مكتبة «رأس بيروت» قد سبقت الى الإقفال بعدما احتفلت بيوبيلها الذهبي.
ومثلها أقدمت مؤسسة نوفل على إقفال مكتبتها بجوار الجامعة الأميركية.
<<<
ويحدث ذلك كله في وقت ترتفع فيه العمارات الشاهقة التي تُغيّر وجه العاصمة، وتَحجب عن الرؤية ما يتجلّى في الطبيعة من جمال في البرّ والبحر أو الفضاء.
ويقف السكان أمام هذه التحوّلات، ويتأملّون تبدُّلَ المشاهد، ومنها اختفاء بيوت الحكمة كي تٌفسحَ مجالاً لنهوض الأبراج وناطحات السحاب تشمخ باعتداد، وتُلغي أنسَ الجوار.
<<<
لكن تحوّلات المدينة ليست الموضوع الذي يسترعي انتباهي الآن، بل الرجل الذي شيّد عمارات شاهقة من معاجم ومؤلّفات قيّمة، كما ساهم بنشر مختارات فريدة من أدب القصّة، نشأتْ عليها أجيال، تقرأ لغةً جميلة، عملَ لها، وتنسّكَ في محرابها وسهر على إعلاء شأنها وإحيائها.
<<<
ويبقى الإنسان، وهو بيتُ الحكمة، وليس العمارة من إسمنت وحديد.
كما يبقى العقل والقلب حضنا لتلك الحكمة التي تحيا بالإنسان.