تعرضت شخصية الثعلب للكثير من التشهير والظلم في الثقافات العالمية عامة، وفي الأدب العربي خاصة، وفي الوجدان الشعبي بشكل أخص. وربما ارتبطت بداية هذا الظلم بالمقارنة الظالمة بين الثعلب الماكر وبين الإنسان الخبيث والماكر أيضًا.
كثيرون من الأدباء أفردوا للثعلب مساحات واسعة في كتاباتهم، بدءًا بابن المقفع الذي ترجم قصص الحكمة «كليلة ودمنة» عن الهندية، أو الفارسية، حسب بعض المصادر، مرورًا بكتاب «الأذكياء» لأبي الفرج ابن الجوزي، وكتاب «الحيوان» للجاحظ، و«حياة الحيوان الكبرى» للدميري، و«ثعالب الأرض» لجوناثان كينج دون، وغيرها من الكتب التي لم أطلع عليها.
لكن الثعلب في حقيقته حيوان مستضعف، ويعيش في غابات وصحاري تزخر بالحيوانات الضارية، التي كان يمكن أن تنهي وجوده على هذه الأرض، لولا امتلاكه تلك القدرات العقلية التي مكنته من البقاء، رغم افتقاده أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها تلك الوحوش المفترسة.
واللافت أن الثعلب استثمر ذكاءه ليسير جنبًا إلى جنب مع الوحوش الكبرى، دون أن تتمكن هذه الوحوش من إيذائه أو النيل منه، وتلك مهمة شاقة ميّزته عن سواه من الحيوانات، رغم أن الحكايات والقصص التي تروى عن الثعالب لم تبرزها أو تمنحها ما تستحق من أبعاد، ذلك أن صفة المكر هي التي علقت في الأذهان وطغت على أفكار الناس، إلى حد أنهم كلما أرادوا التعبير عن استيائهم من شخص ما فإنهم يقرنونه بالثعلب، متناسين أن الإنسان أكثر مكرًا ودهاءً منه، ذلك أن الثعلب يوظّف ذكاءه من أجل العيش والحصول على طعامه وإطعام أبنائه، أما الإنسان فيستخدم دهاءه للإيقاع بالآخرين، وليس لمجرد الحصول على طعامه المتوافر أصلًا!! فضلًا عن هذا فإن الإنسان يستنفر كل حيله ومكره من أجل الثروة والجاه والسلطة، وليس من أجل الدفاع عن نفسه أمام الوحوش الكاسرة مثلما يفعل الثعلب.
والغريب أن الناس يناقضون أنفسهم في كثير من الأحيان، فهم حين يشعرون بانتهاك القوانين وخرقها فإنهم يسارعون إلى التذمر والقول: كأننا نعيش في غابة؟! لكن الثعلب يعيش فعلاً في الغابة التي تحكمها قوانين القوة والفتك، فكيف ينكرون عليه حقه في استنفار ملكاته من أجل البقاء إذا كانت الغابة تفتقد إلى القوانين، أو أنها محكومة بقانون جائر واحد هو قانون القوة وسطوتها؟!
أما تلك الرائحة «النتنة» التي تصدر عن الثعلب حين يمارس «تماوته» التقليدي، فهي ليست سوى سلاح مؤقت ينتهي بانتهاء الغاية من استخدامه، ورغم ذلك فالناس لا يتورعون عن القول «أنتن من رائحة الثعلب» كلما اشتموا رائحة كريهة، متناسين أن في أسفل قاعدة ذيل الثعلب غدة عجيبة تفوح منها رائحة كالعطر المستخرج من البنفسج، وهي الغدة التي تفرز عبيرها عندما يمارس الثعلب لهوه ومرحه ولعبه مع أبنائه.
لقد أضفت شخصية الثعلب على القوة أبعادًا ومعاني كثيرة، لا تستند إلى العضلات والأنياب والمخالب الحادة، إنما إلى العقل ونتاجاته الناعمة الفعالة، التي تحيد القوة التقليدية أو تروضها أو تدمرها، كما استطاعت هذه الشخصية الإشكالية إرغام بريطانيا العظمى على الاستعانة بها لوصف ألد خصومها العسكريين الألمان، وهو الجنرال رومل، الذي أطلقت عليه لقب «ثعلب الصحراء»، وهو ما وجدت أميركا نفسها مضطرة إلى تكراره بطريقة أخرى في عام 1998، حين اعتمدته كعلامة عسكرية سياسية خلال عمليتها «عاصفة الصحراء» التي استهدفت العراق حينئذ.
وبعيدًا عن السياسة والحروب، فإن الثعلب يكنى بأبي نوفل، وأبي نجم، وأبي صعب، وأبي معاوية، وهي كنى يستخدمها الناس ويطلقونها على أنفسهم وعلى أبنائهم، فهل يعني هذا أن في عمق الإنسان إعجابًا خفيًّا مسكوتًا عنه بشخصية الثعلب؟ ثم ماذا لو كان الثعلب غبيًّا كالحمار أو الثور، وقليل الحيلة كالدجاجة أو الأرنب؟ هل كان سيحظى بكل هذه المكانة الأدبية في الثقافات العالمية التي أفردت لحكايا الثعالب صفحات غزيرة لم يحظ بها أي حيوان، بما في ذلك الأسد ملك الغابة؟