المسلم النموذجي نتاج منظومة متكاملة من المدخلات

في ظل الصراع اللاهث وراء المادة والابتعاد عن صحيح الدين سيطر حب الدنيا على الناس، وانغمسوا في ملذاتها وشهواتها، رغم ما ورد في القرآن الكريم من التحذير بالاغترار بها وبمتاعها الزائل، فأورثهم هذا الضعف قسوة القلب والخوف عند المصيبة والجزع لها، وكثرة الرياء والجدال المقسّي للقلب، والاهتمام بالمظاهر والمغالاة فيها. وغلبت عليهم العصبية وسرعة الغضب وعدم الرضا، وكلها آفات للقلب تسرق منه السعادة. ومؤخرًا التقت «سيدتي» بالشيخ جمال قطب، الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر الشريف ليحدِّثنا عن أخطر آفات العصر، وهي قسوة القلب وضعف الإيمان. 

 

في خضم ما نحيا فيه من سعي متصل وراء الماديات ابتعدنا عن الدين الصحيح، فكيف يمكننا العودة للإنسان المسلم النموذج والقدوة؟

 المسلم النموذجي هو نتاج منظومة متكاملة من المدخلات، وهي مناخ سياسي نظيف وخطاب سياسي واقعي، وخطاب إعلامي جاد يتسم بالوطنية والشفافية وأسوة صحيحة في ميادين الحياة، وعلاقات أسرية رشيدة، وبيئة ثقافية صادرة عن مؤسسة دينية واعية، ومؤسسة تعليمية متقدمة، فإذا توافرت تلك العوامل، وتضافرت معًا لوجدنا الشخصية المسلمة الحقيقية. فالمسلم بعبوديته الحقة لله وما تقتضيه من إخلاص وخشية وخوف ورجاء وتوكّل، يكون صاحب قلب سليم ونفس زكيّة وذهن صافٍ، وتفاعله المتواصل مع القرآن والسنّة يجعله يستمد بُعده الإنساني فإذا تحرّك المسلم بمعادلة الربانية والإنسانية كان هو الإنسان النموذج، والقدوة للبشرية بمقتضى ميثاق الإيمان والبيعة لله ورسوله.

كيف تكون تنشئة الإنسان سببًا في ضعف الإيمان وقسوة القلب؟

 في ظلّ أجواء الصراع المادي، وتغلب هذا الصراع على كل الإنسانيات التي كانت تحيط بنا صار الإنسان يرزح تحت وطأة تحدّيات البقاء، وابتعد عن أخلاق ديننا الحنيف التي كان ينشأ عليها من الصغر، وصار همّه في الغالب البقاء على قيد الحياة، يواجه كل يوم صراعات حياتية مادية تافهة من أجل لقمة العيش، في حين كان ينبغي عليه تجاوز هذه الزائفة إلى أداء الرسالة، وإعلاء شأن الدين مما يدفعه لبناء الحضارة والعلو فوق الأمم التي تجاوزتنا لإعلائهم قيم الأخلاق والالتزام والعمل الجاد وطلب العلم، وهذه الأشياء كلها من الأمور التي حثَّنا عليها ديننا الإسلامي الحنيف.

 

 

مظاهر ضعف الإيمان

ما أسباب ومظاهر ضعف الإيمان لدى المسلمين؟

 من مظاهر ضعف الإيمان الغرور الذي يسيطر على الأفراد؛ حتى ليتصور كل واحد أنه زعيم الأمة، كذلك ضعف الإنتاج والاعتماد على الاستيراد من الآخرين، وتصدي الفرد لأعمال لا يحسنها والشتات الذي وزّع الأمة وفرّقها أممًا وجماعاتٍ، وعشوائية العمل العام وعدم الاتفاق على غاية، والتمزق النفسي والتفكك الأسري وغيرها من عوامل الفساد الاجتماعي، وضعف المجتمع المدني، وعدم قدرته على سد ثغرات الدولة.

 

وكيف يمكننا التغلب على ذلك؟

 يبدأ ذلك منذ الصغر فالتنشئة الصحيحة، والتزام الوالدين بالأخلاق والقيم الإسلامية يساهم في تنشئة الجيل الجديد بالطريقة المثلى، والتربية الإسلامية تؤدي لتهذيب الخلق وإعلاء الدوافع والارتقاء بالسلوك الإنساني، وتوجيهه نحو خدمة الإنسانية وخيرها، فالإنسان المتشبّع بالرؤية الإسلامية المتكاملة ينبّهه إيمانه لإيجاد البعد الربّاني المرتكز على الأخلاق والاستقامة والعطاء وحب العلم فيستطيع بناء المجتمع المتحضّر الراقي، ويصنع أمجاده بتوجيه من القرآن الكريم والسنة المطهّرة.

 

قسوة القلب 

لماذا استشرت قسوة القلب في مجتمعاتنا العربية؟

 قسوة القلب هي آفة القلب، وهي ذهاب اللين والرحمة والخشوع، وقد ذمّ الله هذا الداء العضال الذي ظهر في الأمم السابقة فقال سبحانه: «ألم يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ»، وقال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً»، وقد اعتنى خالقنا بهذا العضو الخطير وسعى إلى تطهيره، وتنقيته من الشوائب، وحث العبد على إصلاحه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، ويقول ابن القيم رحمه الله: «في القلب قسوة لا يزيلها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله»، فإذا قسا القلب وأظلم فسد حال العبد، وخلت عبادته من الخشوع، وغلب عليه البخل والكبر وسوء الظن، وصار بعيدًا عن الله، وأحس بالضيق والشدّة وفقر النفس، ولو ملك الدنيا بأسرها، وحرم لذة العبادة ومناجاة الله، وصار عبدًا للدنيا مفتونًا بها، وطال عليه الأمد وقد زادت قسوة القلب بسبب الإعراض عن ذكر الله، والتفريط في الفرائض وأكل الحرام والمجاهرة بالمعاصي واتباع الهوى وعدم قبول الحق، والعمل به.

أيهما أشد قسوة في القلب وأكثر ضعفًا في الإيمان الرجل أم المرأة؟

 الشيطان يكون أكثر تأثيرًا على ضعيف النفس والإيمان سواء أكان رجلاً أم امرأةً، فيقسّي قلبه ويرتكب المعاصي وذلك على الرغم من أن الرجل أقوى من المرأة جسدًا، وأضعف عاطفة فيقاس صلاح الفرد بتقواه وعمله الصالح.

 

سنن إلهية

حدِّثنا عن الرؤية الإسلامية في تلمس السنن الإلهية في الكون!

 المسلم الحق ينبّهه إيمانه إلى تلمّس السنن الإلهية في الكون والمجتمعات، ويدفعه لتطبيقها في الواقع، فالمسلم الحق قادر على الربط بين الإيمان والتقوى، وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق، فدينه يمدّه إلى جانب المعرفة والعلم بالبصيرة، وهي نور ربّاني يستشعره المؤمن الصادق بطول الوقوف على باب الله تعالى بالعبادة والتضرّع، فمراقبة القلب الدائمة ومراقبة الحالة الإيمانية تجعل العبد على علم بمكانه من الله، وهل هو في ازدياد أم نقصان؟ ودوام محاسبة النفس يعيد الأمور إلى نصابها ويجعل صاحبها يستدرك الأمور قبل استفحال خطرها، قال تعالى: «يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»، والمسلم ليس عقلانيًّا فقط ولا متصوّفًا فحسب ولا مقاتلاً بحتًا، إنما هو كلّ هذا، فهو يحسن التفكير والتدبير، ويتفنّن في تزكية النفس وعبادة الله تعالى وينصر دينه وأمّته في كل وقت.

 

كيف يمكن الربط بين الإيمان والتقوى؟

 من خلال القرآن الكريم، فللقرآن رسالته الخطيرة في هداية الأفكار وتهذيب النفوس، وفي إصلاح الأعمال، والقرآن أساس إصلاحاته الفردية والاجتماعية الإيمان القلبي والتقوى الباطنية، والعمل الصالح والربط بين هذه الأمور الثلاثة وبين الفلاح الدنيوي والأخروي، فالعلم في القرآن الكريم هو توأم للإيمان والعقيدة والتقوى، ويبدأ من المعنويات والقرب الروحي من الله عز وجل؛ فالقرآن يرى أن العلم ينبغي أن يسير دائمًا في خط التكامل الروحي، والقرب إلى الله والذي يتحقق بالإيمان والتقوى.

 

نظرة سطحية

كيف يمكننا التخلص من النظرة السطحية للقرآن والسنة والانتقال لتجسيد معانيها الكريمة في العلاقات الأسرية والاجتماعية؟

 ما زالت الأمة تتعامل مع القرآن الكريم دون المستوى؛ فالأمة تركت النص القرآني وانشغلت بآراء البشر ورؤاهم، وكذلك السنة النبوية ما زالت تعاني الأسر في علوم لغوية وتوثيقية، فلم تدرس دراسة موضوعية ولا يمكن تجاوز تلك العقبة إلا من خلال الخروج من التبرّك بالقرآن إلى التحرّك به، ومن النظرة السطحية للسنّة النبوية إلى تجسيد معانيها الكريمة في العلاقات الأسرية والاجتماعية، كما في الحياة الروحية تمامًا، فنعرف مراتب الأحكام، ولا نخلط بين الأصول والفروع، ونُحسن التمييز بين الكليات والجزئيات، وذلك لن يتحقق إلا من خلال مؤسسة دعوية قوية، وواعدة تستطيع تصحيح المسار.

إذا كان تفكير الداعية سطحيًّا ومشاعره غير صادقة تحول الدين لمجرد طقوس وتحول الإنسان لخواء روحي... كيف يكون الداعية الإسلامي

الصحيح، وكيف تكون الدعوة الحقة؟

 العمل الدعوي يحتاج من كل داعية مخلص صادق أن يجتهد قدر طاقته؛ فالدعوة طريق طويل وشاق، والصورة المشوهة التي يقدمها بعض أبناء الحركة الإسلامية تؤدي للفهم الخاطئ للإسلام الصحيح، كما أن الخلافات المفتعلة بين الجماعات الإسلامية لها أثر كبير على تضييع الجهود وهدر الطاقات في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى التعاون على الخير، وإعداد الدعاة مهمة ليست يسيرة, وللأسف الشديد مازالت مؤسسات الدعوة لا تعرف طريقها لهذه المهمة، فينبغي على الداعية أن يكون على مستوى الوعي الفكري وسعة الصدر التي تحفظ للرسالة وقارها ومكانتها، من خلال قراءة أصولية متّزنة ومتفتّحة للقرآن والسنة وللتراث الفكري، وباستعمال الآليات الأكثر فاعلية في فهم الواقع المتشعّب نفسيًّا وماديًّا واجتماعيًّا وحسن الإسقاط والتنزيل؛ لتجاوز العقبات الحقيقية والافتراضية والموهومة في عملية الإصلاح.

 

نصيحة لكل مسلم

بماذا تنصح الإنسان المسلم؛ لكي نعود لإسلامنا الصحيح؟

 كثرة ذكر الله وقراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وتبقى القدوة الأعلى والأرفع في الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لهداية الخلق أجمعين في تفكيره ومشاعره وسلوكه وهديه، فهو النموذج الأمثل لكل مسلم، والذي ينبغي التماس مواطن القدوة في أقواله وأفعاله وحياته كلّها بنظر ثاقب وبَصر واعٍ وفهم عميق، وندعو الله أن يجدد الإيمان في قلوبنا، ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين.