كان بإمكانهم إعلامي بالخبر في المكتب. لماذا استدعوني إلى المقر الرئيسي للوزارة في الرباط؟
صعدت ناقمة إلى القطار، وأنا أفكر في الطريقة التي سأعلن بها الخبر إلى والدي. كان عليهما سماع كلامي. لم أعد صغيرة، وبإمكاني رعاية نفسي... بنفسي.
منذ عامين تقريباً، توصلت بقرار نقلي إلى بلدة في ضواحي فاس. لم يكن قد مر على تعييني في وزارة الأشغال العمومية وقت كثير. قيل لي إن المهندس المشرف على الأشغال هناك مريض، وقد اضطر إلى أخذ رخصة طويلة الأمد لأنه سيعالج في الخارج. أن يعهد لي برئاسة قسم من هذا الوزن، ولم تمض مدة طويلة على التحاقي بالوزارة، أمر لا يتكرر، وفرصة لا يعقل أن أرفضها. لم يكن لديّ في كل الأحوال حق رفض الالتحاق بمكان العمل الذي تعينه لي الإدارة. بنود عقد التشغيل الذي وقعته بكامل إرادتي واضحة جداً.
رافقني والدي إلى مكان عملي الجديد، وعاد يقول لأمي إنني نفيت إلى بلدة محافظة لا تعمل نساؤها، ولا يتقبل رجالها سلطة امرأة عليهم. نوقشت المسألة طويلاً في البيت، وفي النهاية قرر والداي أن يرحلا معي. هكذا... بكل بساطة... أعلماني أنهما لن يدعاني أبداً أعيش بعيداً عنهما في مكان لا يشعران بأنني سأكون آمنة فيه.
أنا وحيدتهما. معلوم. وقد تعودا على إحاطتي بحمايتهما حتى بعد أن اشتغلت وصرت مستقلة مادياً عنهما. ولكن... أن يدفعهما خوفهما المرضي عليّ وعدم ثقتهما في قدرتي على القيام بشؤوني إلى ملاحقتي أينما نقلت أمر لم أتقبله بسهولة.
صحيح، استلامي العمل في بلدة محافظة لم يكن سهلاً. استقبلني موظفو قسم الأشغال بامتعاض واضح، ولقيت صعوبة كبيرة في إدارة شؤون المصلحة. وتعب والدي معي أربكني وزاد من ضغوطي النفسية.
استقرت والدتي معي في المسكن الملحق بالمكتب من أول يوم. جيراني كانوا رجالاً... اثنان منهما أعزبان، والثالث متزوج رفض أن يسمح لزوجته وأولاده بالاقتراب مني. أمي قالت إنها كانت محقة في إصرارها على القدوم معي. أما والدي، فبدأ سلسلة عذاب استمرت أزيد من عام. كان يلتحق بنا في نهاية الأسبوع كلما استطاع، وأثناء العطل التي كنت أفضل، لو ترك لي الاختيار، أن أقضيها في الرباط. لم يدع أحداً من معارفه، ومعارف معارفه، لم يلجأ إليه ليتوسط لدى رؤسائه حتى يتم نقله هو الآخر إلى البلدة التي أعمل فيها، أو إلى إحدى المناطق القريبة على الأقل. قضى شهوراً طويلة من الاستجداء والاستعطاف والانتظار والترقب قبل أن تحقق رغبته أخيراً ويتم نقله إلى مدينة فاس، غير بعيد عن البلدة التي أعمل فيها.
كيف يفترض الآن، بعد كل هذا العناء، أن أعلمه أن المهندس الذي عوضته جاهز لاستلام العمل، وأنه تقرر نقلي هذه المرة إلى طنجة، في الشمال؟
دخل الصبي الذي يوزع صحيفة مجانية في القطار إلى المقصورة التي أجلس فيها، ومد إلى جاري، نسخة تحوي كيس سكاكر قال إنها هدية من أصحاب الصحيفة؛ لتشجيع الناس على قراءتها. كنت أتفادى دائماً أخذ هذه الصحيفة أثناء تنقلاتي في القطار؛ إذ لم يكن فيها ما يستحق القراءة. فمواضيعها إعلانية مائة بالمائة.
مددت يدي هذه المرة لأحصل على السكاكر، كنت بحاجة إلى تناول شيء حلو لأتخلص من الغصة التي لم تفارق حلقي منذ أن علمت الخبر.
ابتسم الفتى بخبث وقال رافضاً مدي بالعدد: «ولا في الأحلام... »
ضحك الراكب، وابتسمت أنا أيضاً رغماً عني، وتملكني شعور بأن النكد مصرّ على مصاحبتي طيلة اليوم.
وجدت والديّ حين عدت إلى المنزل يتشاجران. أصواتهما تملأ المكان. أبي أقدم على أمر لم يستشر أمي فيه، وتصرفه لم يرق لها على الإطلاق. لم أركز في موضوعهما. بقيت شاردة الذهن أفكر في الطريقة المثلى لنقل خبر انتقالي إليهما بشكل لا يصدمهما. وطبعاً، لم أصل إلى نتيجة.
انتبها أخيراً إلى أنني لم أكن في حالتي الطبيعية عندما جلست أعبث بمحتويات صحني على مائدة العشاء دون أن أتناول شيئاً. سألاني عما يحدث، وقلبت عيني فيهما لحظات وأنا أفكر أنهما سيعلمان بالأمر في كل الأحوال، ولا فائدة من اللف والدوران.
«تم نقلي إلى طنجة. والمهندس الذي عوضته سيعود إلى منصبه...» أعلنت بنبرة مرتبكة، وفوجئت بهما يصيحان ويقفزان نحوي لمعانقتي وتقبيلي.
أمي مسحت دموعها وهي تصالح أبي وتشرح لي ما يحدث.
والدي قدم طلباً لإحالته على المعاش المبكر، وقد قبل طلبه. وهي كانت غاضبة لأنه لم يخبرها بالأمر. لكن ما حدث معي شيء رائع. رائع جداً. فهما سيرافقانني إلى مكان عملي الجديد. وأبي كان محقاً بترك عمله، والتفرغ لنا. وطنجة مدينة جميلة، وهي متشوقة للعيش فيها...
فكرت في كيس السكاكر... وتنهدت باستسلام.