نحنُ نكبر كثيرًا بين الكتب، ننضج ونشيب، نعيش الكثير من الحيوات، نتلبس الكثير من الشخوص، ونجوب الكثير من الأزمنة التي يستحيل أن نطأها يومًا، نعبر التاريخ لنقاتل، لنحب، لنجنّ، لنموت ولنحيا، نحن نتكاثر بين عوالمِ الورق ونذوب، نختفي حد التناثر، ونتكتل بين الهوامش، نحنُ نقرأ لندرك، لنعيش، ولنتعايش مع ذاتنا بأكثرِ الطرق سلميّة. لذلك قد أبتعد لأيام، لأشهر وحتى لأعوام عن الجميع، لكنني أتواجد بقليلي وكثيري بين أرففِ مكتبتي، هنالك فقط أولدُ وأجهَضُ، هنالك أتمدد وأنكمش.
أنا دودةٌ ورقيّة، لا يسعني هذا الكون بكلِ ثوراته وعروبتهِ الراحلة، لا يسعني النفاق وملامح الضجر، لا تسعني المشاعر الموقوتة ولا الأرواحِ الخائفة، لا تسعني هذه الحياة بزيفها وبؤسها، أنا ورقةٌ مشجرة، بل سطرٌ منقط، بل علاماتٌ مزخرفة، أنا البياض والحياد، أنا الفراغ والعدم، أنا الحرف المشبوه والكلمة التي لا تنطق، أنا اللغة الغائرة بالدم والقصيدة العرجاء، أنا العناوين الملفقة، والنصوص المزدحمة بالأكاذيب، أنا التاريخ الخالد والأساطير الباقية، أنا اللا شيء قبل كل شيء، أنا الراحلة مع هذا الكم الهائل من المفردات، والمتكاثرة بين الأحبار.
أنا مجدٌ تائه وأطروحة قديمة، أنا الحب الأخير، والقصة العتيقة، أنا تجمهر الكتب، واللحن الباكي، أنا نورسٌ جائع، ودعوةٌ صاعدة للسماء، أنا بحرٌ وحيد وسفينة غارقة، أنا الجميع في الوحدة، والوحيدة في الكثرة.
هكذا أصبح عندما أقرأ، عندما أغرق وأركض بين الكتب، هكذا أشذب الأفكار بين أسطرِ الأدباء، هكذا أصبح قديسة للتفاصيل الصغيرة عندما أتهجّى الأحرفَ القاتمة، وهكذا أبعث في كلِ مرة عندما أشتمّ الورق، عندما أشهق الحكايات المؤرخة، وعندما أربت على قلبي بين كلِ سطرٍ ووجع. علينا الخلود بين صفحاتِ البياض الشاسعة، وعلينا الإنصات بحذر لتمتماتِ الأسطر المبتورة، علينا معانقة كلِ حرفٍ شارد وكلِ كلمة وحيدة، نحنُ الحياة الباقية للكائناتِ الحبريّة، فرفقًا بها. لذلك سأبقى أنبش بين سبرِ أغوارها للأمد؛ لذلك سأبقى الدودة الجائعة للأحبار حتى حين.