القيامُ بجولةٍ في مدينة الدرعية، الواقعة شمال غربي الرياض، العاصمة السعودية، على ضفاف وادي حنيفة، يعدُّ تجربةً استثنائيةً، يتعرَّف خلالها الشخص عن كثبٍ إلى هذه المدينة التي تجمع بمزيجٍ مدهشٍ بين ماضيها العريق وإرثها التاريخي الثمين، وقصص وملاحم بطولاتها التي جعلت منها أيقونةً من أيقونات التاريخ، وعاصمة الدولة السعودية الأولى، وإحدى أهم الوجهات التاريخية والثقافية في العالم، لاسيما بعد إدراج حي الطريف، أكبر أحيائها، في لائحة "يونسكو" لمواقع التراث العالمي. كذلك سيطَّلع على ما تشهده الدرعية اليوم من مشروعاتٍ تطويريةٍ عصريةٍ فارهةٍ، ستجعل منها وجهةً سياحيةً ثقافيةً عالمية.
"سيدتي" أجرت جولةً برفقة المصوِّرة خلود البكر، التي تملك نهماً وإحساساً عالياً بالمسؤولية لتوثيق التاريخ السعودي وأرشفته عبر السرد القصصي الفوتوغرافي، سردٌ تبحث من خلاله عن الهوية وعن الإنسان. في ملامح كبار السن، وصانعي التاريخ، وتعمل على توثيقها بإبراز مكامن جمالياته من خلال صورٍ نابضةٍ بالحياة، لتصبح بذلك شاهداً على ولادة فنٍّ بصري سعودي راقٍ.
تنسيق وحوار:عتاب نور
تصوير : رعد جميل
مكياج : حسنا عبد الرحمن
الدرعية
بعد جولةٍ في الدرعية التاريخية، كيف تصفين لنا المشهد؟
لا يمكنني وصف هذا الكيان الملحمي والرمز الوطني الراسخة جذوره في بضع كلمات. لا يمكنني وصف الشعور الذي يخالجني في كل مرةٍ أزور فيها هذا المَعْلَم الحضاري الذي يُعدُّ امتداداً تاريخياً، يستشعرُ عراقة جدرانه كل زائرٍ. هذا السكون المهيب يولِّد أحاسيسَ بالرهبة والحنين في الوقت نفسه، ويمنح شعوراً بالزهو والفخر والامتنان لهذه الأرض.
كيف يمكن أن تعمِّق مثل هذه الأماكن الهويَّة السعودية لدى أبنائها وتربطهم بالماضي المجيد؟
مما لا شكَّ فيه أن أكثر ما تبعثه هذه المعالم التاريخية فينا، هو الانتماءُ للوطن والولاء لقادته. صروحٌ شامخةٌ، وشاهدةٌ على التاريخ، لا نملك إلا أن نشعر بالمسؤولية تجاهها، ليصبح لكلٍّ منا دورٌ فاعلٌ.
مدينة الرياض
وما مدى ارتباطكِ بمدينتكِ الرياض، وكيف ترينها اليوم؟
لا يوجد أجمل من وصف الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، للرياض في قصيدته «كأنك أنت الرياض»:
وحين تغيب الرياض
أحدق في ناظريك قليلا
فأسرح في الوشم والناصرية
وأطرح عند خريص الهموم
وحين تغيبين أنتِ
أطالع ليل الرياض الوديع
فيبرق وجهكِ بين النجوم.
انتمائي لمدينتي الرياض هو بمنزلة حالةٍ شعريةٍ مستمرةٍ، فأنا أستشعر جمالها في كل التفاصيل.
أي الأماكن تحتضن ذكرياتكِ؟
كل شارعٍ، وكل حي بالنسبة لي، يحمل ذكرى بعيدة وقريبة في الوقت نفسه، لأن ذاكرة مدينة الرياض حيةٌ وغنيةٌ. قصصٌ تروى كل يومٍ، ولقاءاتٌ لا تنتهي.
توثيق الهوية والتاريخ
هل يمكن للمصوِّر الذي يحمل رسالةً حقيقيةً، أن يجعل من صورةٍ بسيطةٍ في ظروفٍ وإضاءةٍ وتكوينٍ بسيطٍ ذات أثرٍ كبيرٍ؟
عندما يجد المصوِّر رسالته الحقيقية، لن يجد أي صعوبةٍ في الوصول إلى جماليات الصورة بمقاييس فنية.
ما الرسالة التي تحملها خلود البكر في مجال التصوير الفوتوغرافي؟
توثيق هويتي، تاريخي الذي يعدُّ مؤثراً حقيقياً في توثيق هذا الإرث العظيم برجالاته من راعي الإبل إلى صانعي التاريخ، وجمال أثر نسائه حاملات العبء الثقيل.
ما سرُّ تعلُّقكِ بالتوثيق التاريخي للوجوه والأماكن النابضة بالحياة في السعودية ومناطقها المختلفة؟
مشاعري الحقيقية في التوثيق التاريخي عظيمةٌ جداً، وهي مسؤوليةٌ، أحملها تجاه المحتوى الضخم، تجاه هذا الثقل التاريخي الذي أنتمي إليه، هذا التاريخ المليء بتفاصيلَ كثيرةٍ لا حصر لها. من ميراثٍ، يحمل لحظاتٍ ربما بسيطة، لكنها أيضاً ثمينةٌ جداً، مثلاً عندما تمطر في الرياض العاصمة.. صلاةُ الجمعة، وبخورُ يوم الجمعة.. فطورُ رمضان.. والالتفافُ الحميم الذي لا يضمُّ أسرةً واحدةً بعينها.. إنما يضمُّ مجتمعاً متكاتفاً بكامله.
ما رأيك بالتعرف أيضًا على الفنانة البصريَّة منال الضويان:الفن مساحة تبحث في الأسئلة الصَّعبة
ʼ يجب أن يستمرَّ الإبداع بعيون سعودية نقيَّة وجميلة توثِّق حقيقة مَن نكونʻ
كيف يمكن أن يكون التصوير الفوتوغرافي وسيلةً للتعبير عن إحساسكِ تجاه الحياة والأحداث اليومية؟
توثيقُ اللحظة، وهذه من تجربةٍ شخصيةٍ. نحن لدينا نهمٌ داخلي معنوي وحقيقي لتثبيت حالةٍ بتاريخٍ معيَّنٍ، يسهم في ترسيخ المشهد السعودي الوثائقي بعيونٍ سعوديةٍ وأرشفةٍ سعوديةٍ بعيدةٍ عن النمطية. نحن فريدون في سرد قصتنا بعفويةٍ وجماليةٍ.
وُثِّقت حياة أجدادنا، آثارنا، وطبيعتنا بجهود مصوِّرين عالميين من بداية القرن العشرين، ومثالٌ على ذلك المصوِّر الإيطالي إيلو باتيجيلي، والأمريكي جوزيف ماونتن، وآخرون. لقد حان الوقت لأن يروي قصتنا أبناءُ وطننا.
إلى أي مدى يمكن الاستمرار في المحاولة للحصول على لقطةٍ مثاليةٍ؟
في رأيي، لا توجد لقطةٌ واحدةٌ مثاليةٌ، ما عدا أن تكون صادقةً، وتحمل رسالةً. اللحظاتُ الصادقة الحقيقية التي تمرُّ في أيامنا كثيرةٌ، قد تكون ألف لقطةٍ مثاليةٍ، أو واحدة. يكفي أن تجد فيها حقيقةً ما، ويكفي أن تلامس هذه الحقيقة شيئاً لدى المتلقي.
التجربة الإنسانية الفنية
دعينا نتعرُّف إلى جانبٍ من ملامح تجربتكِ الإنسانية الفنية في مجال التصوير الفوتوغرافي؟
نشأتُ وتربَّيتُ مع والدٍ ووالدةٍ استثنائيين، أما قصتي مع التصوير، فبدأت بتأمُّلاتٍ في ذاكرتي البعيدة والقريبة لتوثيق ما كنت أراه في طفولتي، وتحديداً من خلال صور عائلة والدي لتوثيق مدينة حائل، وصور والدتي التوثيقية في عسير، ومع أنَّي كنت طفلةً في ذلك الوقت، لكنِّي لمست الفرقَ والعمقَ الجغرافي الذي أنتمي إليه، وهو في نهاية الأمر يختصرُ بلدي السعودية.
ما مدى تأثُّركِ بالسرد القصصي الفوتوغرافي، وما الذي تبحثين عنه بعدستكِ؟
أنا أبحث عن هويَّتي، الهويَّة السعودية المُطلقة بمختلف تراكيبها المجتمعية ركيزةٌ أساسيةٌ، انطلقتُ منها شخصياً، وأسعى إلى غرسها في أبنائي أولاً، وإن نجحت في توثيقها من خلال أعمالي، فسيصبحُ لها الأثرُ بإذن الله في مجتمعنا السعودي، الذي يتكوَّن من شرائحَ مجتمعيةٍ عدةٍ، ومتشعِّبةٍ، وجميلةٍ جداً، وفريدةٍ أيضاً.
أصوِّر قصصاً مستمرةً وممتدَّةً لتاريخٍ معيَّنٍ، أبعد من زمن ولادتي. قد يكون هذا تفسيراً لوجود توثيقٍ بصري لكبار السن، لأنهم الأساسُ والمنبعُ لأي سيرةٍ، أو قصةٍ تلجأ إليها ذاكرتنا الحالية، فتمتدُّ بنا لمواجهة سير الحياة السريع في عصرنا هذا.
ما مصدر إلهامكِ الذي يحفِّزكِ بشكلٍ دائمٍ على الإبداع والخروج بصورٍ فنيةٍ فريدة؟
مصدرُ إلهامي، هو الإنسان، فدائماً ما يأسرني ارتباطه بواقعه وتاريخه، بإنسانيَّته بالدرجة الأولى، بغض النظر عن خلفيَّته الاجتماعية، أو الدينية. تربطني القصصُ التي تحكي واقعنا جميعاً، والأثرُ الذي قد نتركه إن كنَّا فاعلين في حقيقة مساعينا.
حنيني إلى الماضي يرتبطُ بوثاقٍ بيني وبين والدَي، وما تركاه من أثرٍ حقيقي، ألامسه كل يومٍ بأدق تفاصيله. حتى إن لم أعشه، فإن أثره يبقى عظيماً في نفسي، والملهم الوحيد والشاهد الأهم على الرغم من كل الصعوبات.
هيئة الفنون البصرية
ما دور مبادرات هيئة الفنون البصرية في إلهام المصوِّرين المحليين والعالميين لاكتشاف السعودية: مدنها ومبانيها ومناظرها الطبيعية؟
أنا شاهدٌ على ولادة فنٍّ بصري سعودي، يرويه أبناء هذا البلد الجميل. يكفينا ما رواه غيرنا عنَّا! اليوم نستأنس بمشهدٍ عفوي، حقيقي ونقي، لا يحتاج إلى ترجمةٍ، أو تأويلٍ خارجي.
هيئة الفنون البصرية داعمٌ قوي ومحفِّزٌ، تسعى بكل جهدٍ لخلق بيئةٍ فنيةٍ على أسسٍ متينةٍ.
يمكنك أيضًا الاطلاع على جولة خاصة لـ "سيدتي" في "ملتقى العمارة التقليدية" بحي الطريف التاريخي..
ʼ أكثر ما تبعثه هذه المعالم التاريخية فينا هو الانتماءُ للوطن والولاء لقادتهʻ
من خلال خبرتكِ بتقديم ورش عملٍ في المجال، ما أهمية الدراسة لاحتراف التصوير؟
أتمنَّى أن يُدرج تخصُّص الفن الفوتوغرافي في الجامعات السعودية، وألَّا يعتمد على معاهد متخصِّصة فقط.
ما أمنيتكِ بمجال التصوير الفوتوغرافي في بلدكِ السعودية؟
أمنيتي ألَّا يقف المشهد الفوتوغرافي في السعودية على أطلالٍ قديمةٍ، وُثِّقت بعيون الغير. يجب أن يستمرَّ الإبداع بعيونٍ سعوديةٍ نقيَّةٍ وجميلةٍ، توثِّق حقيقة مَن نكون.
ما نصيحتكِ لكل مَن يملك حساً إبداعياً في التصوير للوصول إلى الاحتراف؟
في رأيي، أن الكاميرا مجرَّد أداةٍ، ويمكن لأي شخصٍ أن يتقن إعداداتها، لكن المهم أن يكون لدى المصوِّر الشغفُ الحقيقي والوعي بأهمية قوة الصورة بوصفها أداةَ توثيقٍ، وأن يحمل رسالةً، تعكس رؤيته.
هل واجهكِ أي نوعٍ من الصعوبات خلال مسيرتكِ الفنية؟
حقيقةً لم أواجه أي صعوباتٍ على الواقع منذ بدأت رحلة البحث عن مدينتي الرياض قبل 12 عاماً. أبرز الصعوبات كانت بمنزلة تحدٍّ داخلي لتجاوز مفاهيمَ نمطيةٍ بعيدةٍ عن الواقع، وعن المجتمع الذي أنتمي إليه. أنا ألامس بصفةٍ مستمرةٍ صوراً جماليةً، لا حصر لها، وتراكيبَ مجتمعيةً غنيةً وثريةً بالتفاصيل.
لمَن تقولين شكراً على دعمك؟
أشكر والدي صالح، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. طوال عمره كان سابقاً لزمنه بسنين ضوئية، متذوِّقاً لكل جميلٍ، محباً للحياة، شغوفاً ومخلصاً لعمله ووطنه. أشكره على قسوته العادلة التي ما زالت تحميني حتى هذه اللحظة.
يمكنك متابعة اللقاء على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط حوار وجلسة تصوير في الدرعية العريقة مع المصورة السعودية خلود صالح البكر