هي عروس الشمال عند المغاربة، ومدينة البوغاز، ومكان أسطورة هرقل. طنجة «المدينة الحلم»، كما وصفها الكاتب الأمريكي بول بولز Paul Bowles في أربعينيات القرن الماضي، يمتد تاريخها العريق إلى ما قبل الفينيقيين، وينهل من أساطير الإغريق والرومان. سكن المدينة عدد كبير من الكتّاب والمشاهير من مختلف أنحاء العالم، من بينهم الرسام الفرنسي أوجين دولاكروا Eugène Delacroix الذي جاء عام 1832 على متن باخرة رست في الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق. سحرته طنجة، أغرم بها، فألهمت أعماله. ومنذ عام 711، وصلها الفتح الإسلاميّ لتصبح ممرّ عبور جيش المسلمين إلى أراضي إسبانيا بقيادة طارق بن زياد.
إعداد: سميرة مغداد
تصوير: عيسى السوري
طنجة ملهمة المشاهير
كلّ شيء يدعوك لاكتشاف طنجة، الطبيعة الخلابة والآفاق البحرية المفتوحة والأسواق الشعبية وحديث الناس والمقاهي الشعبية والراقية وفن العيش الطنجاوي. طنجة محظوظة بموقعها الاستراتيجي، فهي مدينة البحرين، تطلّ على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛ هامَ بها عدد كبير من الزوار وجعلوها موطناً ثانياً لهم، بخاصة مشاهير الفن والثقافة، مثل بول ماتيس Paul Matisse، وبول بولز Paul Bowles، وجان جينيه Jean Genet، ووالتر هاريس Walter Harris، وأوجين دولاكروا Eugène Delacroix، وسيدة المجتمع باربرا هاتون Barbara Hutton، التي حفرت على لوحة رخامية في بيتها في طنجة عبارة «الجنة هنا هنا هنا». كما استلهم المصمّم الفرنسي إيف سان لوران Yves Saint-Laurent تصاميم رائعة من أجواء طنجة، وكان يملك بها فيلا «مبروكة» التي تعدّ اليوم مزاراً سياحيّاً متميّزاً للباحثين عن الجمال والسكينة.
طنجة مدينة تمدّ ذراعيها للعالم، بوابة أفريقيا نحو أوروبا والعالم. تعاقبت عليها حضارات على مرّ التاريخ. هي أيضاً مدينة التسامح، اشتهرت في القرن الماضي بأنها مدينة دولية، حيث كنت تجد فيها سكّاناً من أعراق مختلفة، أوروبيين وأمريكيين. ولاتزال طنجة تضمّ الكثير من الأمكنة التي تذكر بشخصيات ودول تركت أثراً واضحاً فيها، بل ثمة شخصيات اختارت أن تدفن في المدينة، مثل الصحافي والتر هاريس، والكاتب بول بولز.
في طنجة، التقينا عزيزة العراقي، المرأة الوحيدة التي تملك وتدير رواقاً مشهوراً لعرض اللوحات الفنية والتحف، وهي بذلك تمثل ثقافة التسامح والانفتاح الذي عرفه تاريخ طنجة. تنحدر عزيزة من عائلة ثرية، والدها فاسيّ أحب طنجة واستقر فيها، ووالدتها إسبانية عشقت والدها وطنجة.
عن حياتها تقول عزيزة العراقي: «ولدت في إسبانيا، وجئت مع أسرتي إلى طنجة وعمري لم يتجاوز العام الواحد. ترعرعت في جوّها الجميل، وريحها التي تأخذني إلى عالم الروايات والأساطير. فطنجة التي أقطنها اليوم، هي أيضاً بوابة أطلّ منها على جذوري الأندلسية في الضفة الأخرى، لأعانقها كلّ صباح في جو صحو وبعيوني المجردة».
تضيف عزيزة: «والدتي امرأة إسبانية، ذات شخصية رفيعة المستوى وراقية، تهتمّ بالأدب والفن والشعر، وكانت مالكة لأحد البازارات الكبرى في مدريد، بينما والدي كان تاجراً للتحف القديمة».
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط طنجة بعيون خبيرة الفن والتحف عزيزة العراقي
طنجة وموقع هرقل الأثري
من خلال عزيزة العراقي، نزور مدينة طنجة التي تعدّ أهمّ مدن المغرب المطلة على كل من البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. هي المعبر المفتوح نحو أوروبا، وموقعها الساحر يغري كتاباً وفنانين ومشاهير للعيش في أحضانها.
تستطرد عزيزة: «طنجة بالنسبة لي مدينة الجمال والفن والتاريخ العريق. قد يحتار الإنسان من أين يبدأ بزيارتها. شخصياً أحب طنجة بهدوئها وصخبها. أرتاح جداً في أماكنها الرحبة المفتوحة على البحر، وكلما أتيح لي الوقت أو احتجت لشحن طاقتي، ألجأ إلى متنزه كاب سبارطيل، الذي يعد من أجمل الأماكن في العالم، لأنه يطلّ على أفق بحري شاسع، يلتقي فيه المتوسط والأطلسي. لا يمكن أن تتصوّروا مدى الراحة النفسية التي يمنحها هذا المنتزه الجبليّ، وسط مناظر خضراء ملهمة، وامتداد مائيّ قلّ نظيره».
وتتابع: «أحب في طنجة شاطئ أشقار الممتد على الأطلسي بطبيعته الخلابة الشاسعة. وبالقرب منه موقع هرقل الأثري، وهو عبارة عن كهف طبيعي نحته البحر وسط الصخور، فيه فتحة رسمت وكأنّها خريطة أفريقيا. الكهف كناية عن فضاء مليء بالطاقة الإيجابية، وأحب زيارته كثيراً، لما يشكّل من مقصد سياحي ترفيهي جميل يقصده الناس من كل بقاع العالم».
ما رأيك بالتعرف على منزل ضيافة بين أشجار الزيتون والصنوبر
نقط لقاء المتوسط والأطلسي
وتضيف عزيزة: «لعلّ أفضل الأماكن لزيارتها في طنجة هي المدينة العتيقة، حيث السوق الداخلي الزاخر بالحركة وعبق التاريخ ومحلات الصناعات التقليدية والتحف القديمة». وتسترسل: «أحب مساحات طنجة الخضراء كثيراً، التي تتوزّع بين الجبل وغابة الرميلات، ورأس سبارطيل بالضواحي. هناك يلتقي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي فتستشعر عظمة الخالق وبهاء الكون. دون أن أغفل فضاء بيير ديكاريس، الذي كان يمتلكه مقيم أمريكي منذ أكثر من قرن، وقد رمّم بيته وسط الغابة ليصبح متحفاً جميلاً. أعدّ المكان من أفضل ما رأته عيناي في العالم. كما أعشق مقهى الحافة ومقابر الرومان المجاورة، كل هذه أماكن غنية بالطاقة الإيجابية يقصدها السياح من كل بلاد العالم».
مقهى الحافة
للمقهى تاريخ عريق كان إلى وقت قريب ملاذاً للشباب الذين يلهمهم المكان، فيحتسون كؤوس الشاي وشوربة البيصارة المعروفة. يقع المقهى على مدرّجات هضبة كبيرة تطل مباشرة على المتوسط، وتوفّر منظراً خلاباً ومريحاً للعين والنفس. يلهم المقهى التوّاقين للهجرة، لأنّ على الطرف الآخر يمكن أن ترى مدينة طريفة الإسبانية وجبل طارق».
وتقول عزيزة: «لمقهى الحافة نكهة خاصة حيث كانت مقصد الكثير من الفنانين والمبدعين، وهو اليوم مقهى شعبي ترتاده العائلات بعدما كان مقتصراً على الشباب».
قبور الرومان
غير بعيد عن المقهى، هناك موقع مطلّ أيضاً على البحر والميناء، يشهد على تاريخ طنجة القديم، وهي مقابر الرومان الذين مرّوا على طنجة منذ آلاف السنين. وتقول العراقي: «لهذا المكان سحر خاصّ، ونستنشق فيه هواءً نقياً يمنح النفس السكينة والتأمل».
هل تريدين الاطلاع على هذه المقابلة مع خلود صالح البكر
أسواق طنجة الملوّنة
أسواق طنجة ملوّنة بكل أنواع المنتوجات التي تملأ السوق الداخلي. هناك تعانق عبق الحياة التقليدية محلات التحف التي تعشقها العراقي. ومعها قمنا بزيارة أحد هذه المحلات التي كانت عشق والدها الخبير بالمجال. وتقول: «منه تعلمت أن أستنشق عبق التاريخ الذي تحمله محلات التحف».
رياض المختار
رافقتنا عزيزة العراقي إلى «رياض المختار»، أحد أقدم «رياض» المدينة القديمة، الذي هو في الأصل دار تقليدية مغربية، اقتنتها إحدى المستثمرات الشابات من أصل فرنسي فحوّلتها فندقاً راقياً يضمن جودة الخدمات وسط مكان جميل يحتفي بالعمارة الأندلسية، وهو نموذج لعدد من المزارات السياحية التي تزخر بها المدينة.
دار البنات واجهة تعريفية بالأصالة المغربية
كما أخذتنا جولة عزيزة إلى دار تقليدية قديمة بحيّ القصبة تم إعدادها وترميمها بتصميم عصري لا يغفل التراث المحلي ويمنحه رونقاً خاصاً، لأجل عرض منتوجات تقليدية مغربية. تحمل الدار اسم Las Chicas أي «البنات» بالإسبانية. تقول العراقي: «يثمّن المكان كلّ ما هو تراثي، ويذكّر بهوية الثقافة المغربية الأصيلة، بخاصة في شمالي المغرب، وهو يحتفي بالجمال والأنوثة. اختارت صاحبته سناء الديوري، أن يكون واجهة تعريفية بالأصالة المغربية المنفتحة أيضاً على العالم».
ما رأيك بالتعرف على القاهرة العشق الأزلي لآخر سلالة مماليك مصر الأمير نجيب شركس
"شغفي كبير بالفن المعاصر، لأنّ ما يهمّني هو أعمال الفنانين المعاصرين الذين لا يحظون بالترويج اللازم في المغرب أو في الدول العربية الأخرى"
دردشة مع عزيزة العراقي
كيف شاركتِ في برنامج «المزاد العلني لبيع وتثمين التحف» على القناة الثانية؟
جاء الأمر بمحض المصادفة من خلال اقتراح تلقّيته من الشركة المنتجة للبرنامج، ساورني بعض التردّد، خاصة وأن تخصّصي أساساً هو الفن المعاصر. لكنني في النهاية قبلت المشاركة لأعيش تجربة التلفزيون الذي أخوض غماره للمرة الأولى.
ما قصة دخولك مجال بيع اللوحات وخبرة التحف؟
كنت محاطة دائماً بعالم الفن والتحف، فوالدي وعميّ كانا تاجرين معروفين للتحف القديمة. وعمّي الآخر رسّام معروف في إسبانيا. والدتي أيضًا مثقفة وفنانة، لكن لا أخفيكم سرّاً بأن شغفي كبير بالفن المعاصر، لأنّ ما يهمّني أكثر هو أعمال الفنانين المعاصرين، الذين لا يحظون بعد بالترويج اللازم، خاصة في المغرب، وحتى في دول عربية أخرى.
ماذا أضاف لك البرنامج؟
كان البرنامج التلفزيوني تجربة غاية في الإثراء والمتعة، حيث أتاح لي الفرصة للتعرف إلى أشخاص مثيرين للاهتمام، واكتساب معرفة كبيرة. ساهمت هذه التجربة في تنمية قدراتي وتطوير نفسي بشكل ملحوظ، لكنني أعتقد أنني في المستقبل لن أشارك في مثل هذه البرامج، إلا إذا كانت ترتكز على تسليط الضوء على الفنانين المغاربة وتعزيز دور الفن المعاصر. فالفن في المغرب غني ومتنوع، ومن الضروري جعله أكثر شهرة بين جمهور أوسع. من خلال المساهمة في تحقيق هذا الهدف، يمكن أن ألعب دوراً إيجابياً في الساحة الفنية المغربية.
صفي لنا حياتك في كلمات معدودة؟
إذا كان عليّ أن ألخص حياتي في بضع كلمات، فستكون: حب، فرح، وإنسانية.
هل تقبل المرأة على مجال صالات المعارض الفنية أو الاستثمار فيها؟
نعم، فالنساء حاضرات في عالم الفن. وإن كان يصعب على النساء أن يثبتن أنفسهن، فهن يجب أن يعملن ويبذلن مزيداً من الجهد من أجل ذلك. أما بالنسبة لأصحاب المعارض الفنية ومهنيي الفن، فالنساء يكتسحن المجال، وقد يكنّ أكثر حضوراً من الرجال تقريباً.
هل تلقيت لوحة هدية واحتفظت بها؟
هي هدية قدّمها لي عمّي في يوم زفافي، لوحة بعنوان Eva dominadora. لهذه اللوحة أهمية عاطفية كبرى.
من أثر في مسارك؟
لوالديّ تأثير على الشخص الذي أصبحته اليوم، وعلى المسار الذي أتبعه. والدي، كتاجر، أوصل لي شغفه بالتجارة، وأمي، كامرأة مثقفة، علمتني كيفية التعرف إلى المواهب والاعتراف بها.
ما العلاقة التي تربطك بطنجة؟
لدي علاقة عاطفية قوية تجاه مدينة طنجة. وهذا المزيج بين أوروبا وأفريقيا يجعلها مدينة منفتحة ومتعددة الثقافات. لا أعتقد أنني يمكن أن أعيش في أي مكان آخر.
ما المدينة الأخرى التي قد تجذبك للعيش فيها؟
لعل المدينة الأقرب إليّ، بعد طنجة، هي مدريد. فوالدتي من مدريد، وكنت أقضي فيها الكثير من الوقت، خصوصاً أثناء الإجازات. إنها المدينة التي تمكنت فيها حقاً من تنمية عيني الفنية والفكرية.
ماذا تعني العائلة بالنسبة لك؟
العائلة هي عمود حياتي، بوصلتي وكل مرجعياتي، وسر قوتي.
من يلهمك؟
عائلتي، أبنائي، أصدقائي الحقيقيون، وحتى كلابي، فأنا أحب الحيوانات جداً، خاصة الكلاب.
مفهوم الجمال لديك؟
بالنسبة لي، الجمال والأناقة ينبعان أوّلاً من الداخل العميق، من القلب. أن تكون شخصاً طيّباً هو أرقى ما يمكن أن يكون عليه المرء في نظري.
كلمتك للرجال عبر «سيدتي»؟
ما أرغب في قوله للرجال، هو أنه حان الوقت لفهم أن الأنوثة، هي مصدر كلّ الأحاسيس الجيدة. حان الوقت لإعطائها المكانة التي تستحقّها. وليعلموا أنّ المستقبل ينتمي الآن للنساء.
وللنساء؟
أنصح النساء بمتابعة أحلامهنّ، وعدم التوقف أبداً عن الحلم والعمل.
ولطنجة؟
أنتِ ملهمتي وملاذي!
يمكنك أيضًا الاطلاع على ظفار طبيعة خلابة على مدار العام