تتلاصق محلات بيع الأنتيك والتحف والأثاث القديم في السوق الواقع في محلّة البسطة وهو من أعرق الأسواق اللبنانية، ما يسهّل على أصحابها الجلوس معاً وتبادل الأحاديث والأفكار حول المقتنيات وأخبار السوق خلال تناول فنجان القهوة الصباحية. قطع أنتيك وتحف كبيرة، وأخرى صغيرة تتكدّس فوق بعضها، كراسِ وطاولات وتماثيل ولوحات ومنحوتات وثريات عمرها يمتد لمئات السنين، تروي حكايات ألف ليلة وليلة، تتوزّع في زوايا وأمام المحلات تنتظر الزبائن.. وكان التجار يشترون من البيوت والقصور أشياء يودّ أصحابها التخلص منها ويقومون بعرضها للبيع من جديد.
إعداد:عفت شهاب الدين
تصوير: سمر شبّاني
دعد سرحال غندور
تقول دعد سرحال غندور (مهندسة ديكور وصاحبة متجر للأنتيك) إنها دخلت هذا المجال المميّز عن طريق الصدفة، عندما كانت برحلة إلى الولايات المتحدة الأميركية مع زوجها عام 2017. وتضيف: «استهواني موضوع تجميع القطع كمقتنيات شخصية، وكانت النتيجة أننا اشترينا كميات كبيرة من قطع الأنتيك واصطحبناها معنا إلى لبنان. عندها اكتشفت أنني أمتلك الشغف تجاه هذه القطع التي أعتبرها بمثابة الكنوز التي لا تقدّر بثمن».
وتتابع: «تجربة تجميع قطع الأنتيك لا مثيل لها، وهي تجربة مميّزة جداً، ويغمرني الفرح والسعادة عندما أجد المقتنيات التي أبحث عنها، ومن ثم عندما أعرضها عندي في المتجر. ولا أخفي سراً إذا قلت إنني متعلّقة بجميع القطع الموجودة عندي ولا أفضل أن أبيعها أبداً».
تواصل دعد قصّتها مع الأنتيك: « يضجّ شارع البسطة في بيروت، حيث متجري، بالحياة والحيوية والتنوّع وزحمة قطع الأنتيك.. بالإضافة إلى العمليات التجارية وحركة العملاء، ونلحظ حتى وجود المساواة بين طبقات المجتمع لدى الباحثين عن مقتنيات الأنتيك... عندما عدنا من الولايات المتحدة كنت أنا وزوجي مصرّين على أن يكون المتجر في هذا الشارع قائماً للأسباب الكثيرة التي سبق وذكرتها. وهكذا بات عندنا زبائن عديدون من كافة البلدان، بخاصة دول الخليج، ومن الذين يقدّرون هذا النوع الراقي من الفنون، أي تجميع قطع الأنتيك والحفاظ على قيمتها التي لا تزول مع مرور الزمن، بل على العكس تزيد وتتفاقم».
وتشدّد دعد في حديثها بقولها: «وجدت نفسي في هذا المجال لأنني مهندسة ديكور، وقد لاحظت أن هواية الأنتيك أكملت عملي جداً وجعلتني أكثر قوة، فأنا بالأساس أهتم بتنسيق القطع مع بعضها تبعاً للأثاث، ولا مانع على الإطلاق كما نشهد خلال هذا العصر من دمج الأنتيك مع المودرن على سبيل المثال».
وعن ما تجده في هذه الهواية من جمال تقول: «البحث الشخصي عن القطع وعدم اللجوء إلى البحث عنها عبر السوشيال ميديا، حتى لا تفقد رونقها. والزبائن العرب لهم أثر كبير في تنمية هذه الهواية، وهم موجودون معنا رغم الظروف الصعبة التي نمرّ بها».
وحول مصادر قطع الأنتيك، تؤكد دعد «أن هذه المصادر منوّعة وليست من مصدر واحد فقط، فقد تكون من خارج لبنان كفرنسا، وإيطاليا... وأحياناً نشتريها من البيوت بداعي هجرة أصحابها، أو السفر، أو الوفاة، أو بداعي التغيير من نمط الأنتيك إلى نمط المودرن».
وتردف قائلة: «أول ما افتتحت هذا المتجر لم أكن أفضل بيع القطع، لأنني متعلّقة بها إلى درجة كبيرة. ولكن مع الوقت ومع ممارسة هذه الهواية والخبرة تغيّرت نوعاً ما، ولكنني لا أزال أتردّد في بيع أي قطعة حتى يومنا هذا، لأنني أعتبرها جزءاً مني لا أستطيع التخلي عنه».
نسألها عن قطعها المفضلة فتجيب: «لا شكّ أن هناك قطعتين عزيزتين جداً على قلبي، ومميّزتين جداً، وهما كونسول من البندقية تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لناحية جمالها الفريد من نوعها وتاريخها وعمرها والمجهود الذي قمت به لشرائها؛ بالإضافة إلى منحوتة من طراز Art Nouveau بعنوان La Mer، وهي من البرونز، نفذها النحات الفرنسي فرانسوا-راوول لارش François-Raoul Larche (1860-1912)، في بداية القرن العشرين. وباقي القطع لها أهميتها وجماليتها بالطبع، وأنا وزوجي نقضي وقتاً طويلاً في هذا المتجر، لذلك لا أحتفظ بقطع كثيرة من الأنتيك داخل منزلي».
وتشير دعد إلى أنها تواكب كل ما يتعلّق بهذه الهواية أو هذه التجارة، وتضيف: «لبنان بلد يصدّر قطعاً لا تعدّ ولا تحصى من قطع الأنتيك نظراً للمجمّعات الغنية والنادرة التي يملكها معظم التجار. والسوق اللبناني اليوم مليء بهذه القطع، لذلك لا داعي في الوقت الحالي إلى السفر لاقتنائها فهي موجودة عندنا، مع العلم أنّ كل تاجر يتميّز بأسلوب خاص قد يختلف عن غيره، ولا مانع أن نشتري القطع من تجار أنتيك آخرين في حال توفّرت القطع المرغوبة، والاستفادة من الخبرات المتبادلة بين الجميع». وتختتم دعد قائلة: «أقدم قطعة موجودة عندي يعود تاريخها إلى الفترة ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. كما أملك قطعاً قديمة صغيرة وأخرى من العاج. حتى هذه اللحظة لم أندم على الإطلاق لأنني دخلت هذا المجال المليء بالجمال، والأناقة، والرقي والغرابة.. الأنتيك بالنسبة لي عالم رائع وأنا متعلّقة به، وعندي شغف لامتلاك الأكثر والأحلى من بين القطع. وكل قطعة تؤثر بي لأنها تنقلني إلى زمن بعيد وتحفّز حماسي للعمل المتواصل والاستمرارية والمحافظة على النجاح. إضافة إلى أنّ هذه التجارة تتطلّب سلاماً عاماً، خاصة وأنها مهنة استثمار وليست فقط للديكور. فقطع الأنتيك لا تنتهي صلاحيتها على الإطلاق».
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط سوق البسطة للأنتيك
"سوق الأنتيك في بيروت يختصر قصة زمن وبيوت عتيقة وتحف نادرة"
يوسف عمار
يشير يوسف علي عمار (صاحب متجر ديوان عمار للأنتيك) إلى أن سوق الأنتيك في محلة البسطة، له تاريخ عريق، وهو معروف بزبائنه من أصحاب الذوق الرفيع والضالعين في تاريخ التحف وأصلها وفصلها... ويقول: «بدأنا هذه المهنة عام 1948 مع العلم أن عمر السوق يعود إلى بداية القرن العشرين... وبات السوق اليوم يضم أكثر من 100 متجر تحتوي على مقتنيات أثرية مهمة، وجميع أنواع المفروشات والديكور والزينة، كلّها قديمة العهد أو حديثة... والسوق ملتقى لجميع الأشخاص الذين يهوون اقتناء مثل هذه القطع المميّزة من كافة المستويات الاجتماعية، فكل متجر له ميزاته الخاصة».
يتابع يوسف: «والدي هو الذي أسّس هذه التجارة، ومن بعده تابعنا أنا وشقيقي فرج. أحببنا هذه المهنة كثيراً وطوّرناها، وقد وصلنا إلى مكانة مرموقة جداً وبتنا من أهم تجار الأنتيك في لبنان».
ويضيف: «متاجرنا تضمّ عدداً من قطع الأنتيك التي لا تعدّ ولا تحصى، ومصادرنا من كافة أنحاء العالم دون أي استثناء، من بينها: مصر، هولندا، بلجيكا، فرنسا، لندن، المغرب، تركيا، سوريا والشرق الأدنى... بالإضافة الى أننا نشتري بعض مقتنيات المنازل المعروضة للبيع...»
ومن القطع المميّزة الموجودة لدى متجر ديوان عمار، يعتبر يوسف أن معظمها عزيز على قلبه، قائلاً: «أملك درسواراً فرنسياً يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، وهو من أهم القطع الموجودة في لبنان، مع ساعة وشمعدانين من البرونز هما من أروع القطع الأُثرية، كذلك مجموعة من القطع تعود إلى زمن المماليك، مع بعض إكسسوارات الفضة والصحون على أنواعها تعود إلى عصر السلطان سليمان، والسلطان عبد الحميد في تركيا، وساعة كبيرة فرنسية عمرها أكثر من 150 عاماً... ومرآة كبيرة من خشب القطران مع كادر لطراز البيت القديم يعود عمره إلى أكثر من 200 عام». ويتابع: «كذلك اشترينا مقتنيات فندق فينيسيا القديمة، كما لدينا مصادر أخرى نلجأ إليها كالتعاون مع أصحاب متاجر للأنتيك تبعاً لمتطلّبات السوق، مع المشاركة ببعض المزادات والعروض التي تقام. ولا أخفي سراً إذا قلت بأن هذه القطع شاركت وتشارك بعدد كبير من المسلسلات والأفلام، بخاصة تلك التي تعرض خلال شهر رمضان». وعن زبائن ديوان عمار، يقول يوسف: «هم من أبسط الناس إلى أكثرهم مكانة وغنًى في المجتمع. لا يكفي أن تملك المال لتشتري الأنتيك، فالأهم هو أن تكون عارفاً بالقطع التي ستشتريها، فصحيح أن بعض القطع قد يصل سعرها إلى بضعة دولارات، إلا أن بعضها الآخر قد يصل سعره إلى مئة ألف دولار. يبحث الزبائن عن اللوحات والثريّات، والتحف الشرقية والإسلامية، فالبضاعة القديمة (حقها بقلبها)، ومستحيل أن تخسر من قيمتها».
ما رأيك الاطلاع على "سيدتي" في منزل عبد الحليم حافظ مع المخرج محمد كمال الشناوي
- سجادة فارسية بيجار من حوالي 1880، أدرِجت على لوائح البيع لدى كريستيز.
- عقد من عزة فهمي Azza Fahmi.
- ساعة من البرونز ضمن مقتنيات سوق الانتيك.
- هاتف أثري قديم جداً.
- قطعة من الأنتيك تعود إلى قرن قديم.
علي هزيمة وابنه محمد هزيمة
ورث علي هزيمة (صاحب متاجر أنتيك) هذه التجارة عن والده منذ العام 1951، واليوم يعاونه ولداه في إكمال المسيرة. تضمّ متاجره قطعاً مميّزة وبعدد كبير، مصدرها من البيوت البيروتية القديمة والتراثية. وهناك أيضاً قطع أنتيك معظمها أوروبية، يحصل على بعضها من التبادل بين التجار، كما أنّه يقوم بتصدير بضاعته إلى الخارج، كفرنسا وأميركا كما يشير في حديثه.
وعن مصادر الأنتيك فهي غير محصورة بمنطقة أو بلد، على حدّ قول علي، إذ يشرح مسترسلاً: «أحيانا كنا نشتري كلّ أثاث منزل ما، بعد ذلك أصبح السوق يتّسع، وخاصة خلال السبعينيّات، فالتجار يختارون القطع الثمينة التي تتميّز بأصالتها وعمرها ونظافتها من أي مكان أتت. ومَن يشتري قطع الأنتيك والتحف هو من يهوى جمعها لتزيين صالة منزله أو قصره. مع العلم أن بيع الأنتيك والتحف تراجع منذ فترة مع انهيار الوضع الاقتصادي والمالي وعدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، وتراجعت معه حركة البيع والشراء، ولم تعد هناك حركة نشطة في سوق البسطة، كما كانت عليه خلال عقود مضت. وهناك الكثير من أصحاب المحال ممن يملكون القطع الأثرية والأنتيك ولكن لا يعرضونها للبيع».
يتابع علي: «كان المشترون وروّاد السوق يملؤون الأزقة والممرات، ويعجّ السوق بالزبائن العرب والأجانب الذين يشترون التحف التي تعجبهم، حين كانت المعروضات ذات قيمة كبيرة بالنسبة للجميع. أما اليوم فباتت الحركة شبه معدومة بكل أسف. كان يقصد السوق أناس من مختلف الجنسيات والطبقات الاجتماعية للبيع والشراء. أما المعروضات فكثيرة، من قطع نحاسية وزجاجية مزخرفة وخشبية من مختلف الأحجام، تنتظر من تجذبه ليشتريها، فتدخل منزله شاهدة على حقبة من حياة أيام وناس وذكريات وقصص وحكايات وتاريخ... تحف تروي بصمتها العميقة ألف حكاية وحكاية. وللماضي في سوق الأنتيك في البسطة رائحة الذكريات، وحنين اليوم للأمس، والمستقبل للحاضر والرجوع إلى القديم بجماله ومتانته. ويبقى السوق حتى يومنا هذا معلَماً ومكاناً خاصاً ومقصداً لمن يرغب في اقتناء التحف في لبنان والوطن العربي والعالم».
أما ولده محمد فيقول: «هذه التجارة جميلة جداً، وهي تراث عائلي بامتياز، ولأنني من الجيل الجديد أقول إنها تضمّ كنوزاً نادرة وفريدة من نوعها، وتقدّم لكلّ من يقتنيها قيماً إنسانية رائعة، مع العلم أنني أحب مزج الأنتيك مع المودرن».
ويتابع محمد: «ألجأ إلى السوشيال ميديا لنشر هذه الثقافة الراقية وتطويرها مع المحافظة على أساسها ونمطها، وحتى نعرّف عنها أكبر قدر ممكن من الناس. أنا أشجّع جيل الشباب للاهتمام أكثر بهذه التجارة لأنها غنية جداً بتاريخها، وفنها وتراثها... وعندي صفحة على الانستغرام بعنوان @beirutantiques لنشر هذا الفن الراقي في جميع أنحاء العالم، حتى ينتبه جيل الشباب لأهميته وقيمته التاريخية التي لا تزول مع مرور الوقت».
يمكنك أيضًا الاطلاع على طنجة بعيون خبيرة الفن والتحف عزيزة العراقي