شجار وصراخ وعنف لفظي ونزاعات لا تنتهي! أجواء من العصبية تسود المنزل، وتهدّد راحة بال وطمأنينة ساكنيه، ولاسيما الأطفال منهم الذين يتوقون للعيش بأمان في كنف عائلة هانئة وبيئة صالحة تكفل نشأتهم بصورة طبيعية أسوة بغيرهم من أقرانهم. ولكن، ليس كل ما يتمنّاه المرء يدركه، ولا بدّ من قرار حاسم في نهاية المطاف يأتي ليطوي صفحة مؤلمة كانت تملؤها المشكلات والأزمات بأنواعها. تتعدّد الأسباب والقرار واحد: الطلاق! فأيّ الشرّين أهون: الاستمرار في العيش تحت سقف واحد رغم ما ينطوي عليه هذا القرار من توتر وانفعال ونبرة عالية ولهجة قاسية، أم اتخاذ القرار بالانفصال رغم الآثار النفسية للطلاق على شخصية الطفل وذكائه ومعنوياته وعلاقاته ونظرته إلى الجنس الآخر مستقبلاً؟ هل يمكننا إطلاع صغارنا على ما نواجهه من مشكلات وسوء تفاهم؟ وهل يمكن حقاً الحصول على طلاق آمن وسلس ومنظّم؟ وهل يمكن أن يشكّل الطلاق حلاً أفضل للطفل؟ أسئلة حملتها "سيدتي" إلى الاختصاصي في علم النفس التربوي الدكتور هاشم عواضة:
يستهلّ الدكتور هاشم عواضة حديثه لـ "سيدتي" بالإشارة إلى "أن الزواج ضرورة حتمية لضمان استمرارية البشرية، من خلال الأسرة التي تشكّل نواة المجتمع تالياً، وحاجة إنسانية ملحّة للحب والبحث عن التكامل مع الآخر".
وإذ يفيد ان "غالبية قرارات الارتباط تأتي بعد تفكير وتمحيص، إلا أنّ هامش سوء الاختيار أو الخداع أو التغيّر في السلوك أو الطباع يبقى كبيراً يولّد خلافات لا تهدّد استقرار العائلة بمكوناتها فحسب، بل تحوّل الحياة داخل جدران المنزل إلى جحيم حقيقي يتلمس جميع ساكنيه سبيلاً للخلاص ومنفذاً للحرية والأمان"، يؤكد في الموازاة، ان "ثمة ضحية مغلوب على أمرها، لا حول لها ولا قوة ألا وهي الطفل الذي تتلاطمه موجات الانفعال والغضب والصراخ التي يثيرها والداه الأحبّ إلى قلبه وأقرب الناس منه، غافلين عمّا يعانيه بصمت أو ما يصدر عنه من ردات فعل قد تبدو غامضة أوغير مبرّرة بنظرهما". ويشرح ان "سوء التفاهم والاختلاف في السلوك والطباع أمور لا بدّ منها في الحياة العائلية، ولاسيما في ظلّ الظروف الراهنة بما تحمله من تحديات وأزمات ومشكلات على الصعد السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب خصوصيات العلاقة بين الوالدين بكل تناقضاتها وحساسيتها وتباين وجهات النظر والثقافة والبيئة واختلاف المواضيع محور الاهتمام، كلها أمور من شأنها أن تشعل حرباً داخل كل منزل تطال شراراتها كل من يعترض طريقها، وتصيب شظاياها المذنبين منهم والأبرياء على حدّ سواء".
الطفل في عين العاصفة
السؤال عن وجوب اطلاع الطفل على ما يواجهه الأبوان من مشكلات، يجيب عنه بالإشارة إلى صعوبة أو ربما استحالة اخفاء الأمر على الطفل الذي ورغم صغر سنه يمكنه أن يشعر بالأجواء المشحونة التي تسود المنزل وتصرّفات والديه وعباراتهما التي تتصف بالعصبية والانفعال والتوتر الشديد وغياب الودّ بينهما، ولاسيما أنّ تلك الأمور تظهر بوضوح من خلال التعابير وملامح الوجه ونبرة الصوت، حتى وإن كان الطفل لا يدرك بالضبط سبب المشكلة. وهذه العوامل تجعله قلقاً ومضطرباً، لا يجد سبباً وجيهاً وواضحاً لما يجري حوله، علماً بأنّ معدّل الذكاء لدى الأطفال بدأ يزداد نظراً إلى ما نشهده من تطوّر تكنولوجي ووسائل تواصل واطلاع هائل حيث بات إنكارنا لما نواجهه من مشكلات صعباً.لذا، ينبغي بالوالدين، حسبه، أن يجيبا عن أسئلة صغيرهما واستفساراته بوعي ووضوح، مع تجنّب الدخول في التفاصيل الدقيقة التي قد يعجز عن فهمها أو تقبّلها. ويجدر بكلّ منهما عدم الإساءة للطرف الآخر في معرض الدفاع عن نفسه أمام الطفل وسرد وجهة نظره، لكي لا تهتز صورة أيّ منهما أو تتزعزع مكانته لديه، ما يؤثر سلباً على نموّ شخصيته ونفسيته ومعنوياته إثر انهيار الصورة المثالية التي يمتلكها في ذهنه عن كلّ من والديه والتي يسعى للتشبّه بها ومحاكاتها. ويدعو الاختصاصي ألا يغيب عن ذهن كلّ من الوالدين أنه ورغم كلّ ما يصدر عنهما من صراخ وانفعال، وصولاً حتى إلى طلاقهما، أنه ما يزال والد هذا الطفل، وهذا الصغير ينظر إليه كقدوة حسنة يقتفي أثرها، ولا ينفكّ يرسم في مخيّلته صورة جميلة لها.من هنا، يتوجّب عليهما توخّي الحذر في اطلاعه على ما يحدث، والحرص على تجنيبه أي ضرر أو أذى نفسي أو معنوي أو حتى جسدي.
آخر الدواء الكيّ
بعد تفاقم الوضع ووصول علاقة الوالدين إلى حائط مسدود تتكسّر على جنباته كل مساعي الصلح ورأب الصدع، يقرّر الطرفان اتخاذ القرار الحاسم والنحو باتجاه أبغض الحلال عند الله ألا وهو الطلاق والذي قد يبدو في بعض الحالات مطلب الصغير أيضاً، هرباً من المعاناة اليومية والأصوات التي لا تخفت والعنف الذي يأبى مغادرة المكان!
ولكن، هل من الممكن الحصول على طلاق سلس ومنظّم؟ يفيد د.عواضة بأنّ "الأمر ممكن وليس مستحيلاً، إلا أنّه يتطلّب وعياً ونضجاً نفسياً واجتماعياً وثقافياً وحسّاً إنسانياً عالياً، ما يخفّف من تداعيات الانفصال النفسية والمادية والاجتماعية وغيرها على أفراد الأسرة كافة، ولا سيما الأطفال منهم". ويضيف: "قد يكون الطلاق حلاً، ولو على مضض، لحالات القلق والاضطراب والفوضى التي يعيشها الطفل في ظلّ والدين يتقاذفان الاتهامات والعبارات اللاذعة والعنف بأنواعه كل يوم على مرأى ومسمع منه. لكن، لا يمكن أن نغفل أنّه حتى ولو تمّ الأمر في أفضل صورة سيبقى يعدّ انفصالاً وتفكيكاً لأواصر تلك الأسرة التي لن تكون في أي حال من الأحوال كغيرها من الأسر المتماسكة المترابطة ذات العلاقات الدافئة والمتينة".
خطوات هامة
معلوم أنّ لنشأة الطفل في بيئة يسودها العنف والأزمات آثاراً سلبية لا تخفى على عاقل، تترك بصماتها واضحة على نواحي حياته النفسية والاجتماعية والعلمية والعاطفية وتطوّر معدّل ذكائه الانفعالي، كما قدرته على تلمّس طريقه مستقبلاً بخطى ثابتة وتوازن يساعده في اتخاذ قراراته كافة. ولكن للطلاق تداعيات قد لا تقلّ خطورة عنها، ولا سيما إذا ما تمّت هذه الخطوة، بظروف قاسية وعراقيل لا طائل منها. لذا، يترتّب على الوالدين ومن يحوط بهما من عائلة كبيرة أن يتحمّلوا مسؤوليتهم تجاه الطفل، وذلك بإتمام الطلاق بطريقة سلسة ومنظّمة قدر الإمكان، تحفظ حقوق الأطراف كافة خصوصاً الطفل سواء المادية أو المعنوية والعاطفية، بعيداً عن الانتقام والابتزاز واستعماله كأداة ضغط في وجه الطرف الآخر، كما يحدث في عدد من حالات الطلاق. ويحتّم بكلّ من الوالدين أن يدرك تماماً أنّ علاقة الطفل به لا تنتهي بوقوع الطلاق، بل ربما يكون هذا الأخير أشدّ حاجة إليهما بعد الانفصال، ويقع على كلّ منهما توفير الرعاية له والاهتمام به وصون إنسانيته ومراعاة نموّ شخصيته وتطوّرها، وذلك للتخفيف قدر المستطاع وطأة فقدانه لأيّ من والديه، وانهيار مملكته الصغيرة أمام ناظريه في سنّ مبكرة.