يقول الله تعالى محدثاً عن القرآن الكريم : «إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا». وفى قصتنا آيات كريمة جاءت بشرى لسيدة مؤمنة من نساء الصحابة فى سورة عظيمة اهتمت بشأن النساء وأحكامهن، وسُميت باسمهن فكانت «سورة النساء» التى أنزل الله سبحانه وتعالى فيها حقوقاً للمرأة كان لايعرفها المجتمع الجاهلى، ولا حتى المجتمعات الأخرى. ولنزول هذه الآيات الكريمة في تلك السيدة المؤمنة من نساء العهد النبوى قصة نتلو عليكم تفاصيلها فى السطور التالية.
كان فى العهد النبوى سيدة مخلصة مؤمنة تدعى «كبيشة بنت معن».كانت كبيشة بنت معن تعيش مع زوجها «أبو قيس» حياة هادئة سعيدة لايعكر صفاءها شيء. فقد كان الزوج محباً لزوجته مقدراً لها، وكانت هى تبادله المحبة بأكثر منها وتخلص له على أجمل وأكمل ما يكون، فقد ألف الإسلام بينهما وجمعتهما صحبة الدين، فزادهما الإيمان والعبادات قرباً لبعضهما البعض.
صحيح أن الله لم يرزقهما أولادا لكنهما كانا سعيدين وراضيين بحكم الله تعالى لهما. فقد كان لأبي قيس أولاد من زوجة سابقة فلم يفارق كبيشة لعدم إنجابها بل أحبها وأحب عشرتها.
الزوجة الوفية
وذات يوم مرض زوج «كبيشة» مرضاً مفاجئاً ولم يعرفوا له دواء فحزنت «كبيشة» عليه حزنا شديدا ولازمت فراشه تمرضه، وتواسيه وتخفف عنه آلام المرض، فقد كانت كبيشة تعرف عظم حق الزوج على زوجته فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، قيل لها ادخلى الجنة من أى الأبواب شئت».
وكانت «كبيشة» لاتُرى إلا جالسة بجوار زوجها ترعاه وتسهر على راحته وتداويه وتدعو له بالشفاء العاجل حتى لايتركها وحيدة فليس لها من بعده أحد إلا الله. وكانت كبيشة قد سمعت من أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما إمرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة»
وفجأة وعلى غير توقع، تدهورت صحة «أبي قيس» زوج كبيشة تدهوراً كبيراً ومالبث الزوج المخلص أن مات وترك زوجته لعادات وتقاليد المجتمع الجاهلى الذى كان يظلم المرأة ظلماً بينا!
وعاشت كبيشة وحيدة في دار زوجها، تذكر حُسن معاملته لها، وحسن عشرته معها وأخلاقه الكريمة التي كان يتمتع بها وتخشى من الأيام القادمة حيث لم يكن للمرأة وقتها حق فى ميراث من زوجها ولا حتى من أبيها، بل كانت هى نفسها تورث لأقارب الزوج خاصة إذا كانت مثل حال كبيشة ليس لها من زوجها أولاد!
كُبيشة تصبح رهينة
ولم تمض أيام قليلة، حتى جاءت اللحظة التى كانت تخشاها «كبيشة» حين جاء إبن زوجها من إمرأة أخرى، وطرح على كبيشة ثوبه وكان هذا من عادات العرب فى الجاهلية وكان لرمى الثوب هكذا معنىً خطير! فقد كان هذا هو العُرف فى الجاهلية وكان هذا له معنى واحد ومعناه أنها أصبحت إرثاً من حق إبن الزوج بعد موت أبيه!!
ويقول إبن عباس شارحاً لنا هذا الوضع الغريب:
كانوا في الجاهلية، إذا مات الرجل عن زوجته جاء قريب الزوج خاصة ابنه من إمرأة أخرى فألقى ثوبه على تلك المرأة فمنعها من الناس وحبسها وحدد إقامتها، فإن كانت جميلة تزوجها! وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وإن شاء زوجها غيره وأخذ مهرها.
عادات جاهلية بالية
لقد كانت تلك عادة العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يجعلون النساء ميراثا لهم، كما تورث الأموال والعبيد، يتصرفون فيهن كما يشاءون ولاحق للمرأة أن تتذمر أو تشكو أو حتى تهرب من هذا الوضع المشين. جلست «كبيشة» حبيسة في دار زوجها، تفكر ماذا تفعل.. ؟ ثم قالت لنفسها:
إن هذه العادات كانت قبل أن يبعث الله « محمدا» صلى الله عليه وسلم بدين الاسلام، لقد جاء الإسلام ليرفع الظلم عن المظلومين. حرم وأد البنات، وساوى بين الرجل والمرأة في التكاليف والعبادات، وجعل مقياس التفاضل بين الناس التقوى والعمل الصالح وبالتأكيد فإن هذا الوضع الظالم المهين للمرأة لن يرضى الله ولا رسوله. ووجدت كبيشة نداء بداخلها يحثها على القيام وعدم الإستسلام لهذا الواقع الأليم فقالت لنفسها: قومي يا «كبيشة» إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعرضي عليه مشكلتك ولاتأبهى للحبس الإجبارى الذى فرضته عليك العادات والتقاليد.
كبيشة تعرض مشكلتها
وهناك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جلست كبيشة تحدث الرسول في أمرها، وأمر كل النساء أمثالها. دخلت كبيشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرضت عليه مشكلتها.
قالت: يارسول الله، مات زوجي، فلا أنا ورثته ولا إبنه تزوجني، أو تركني أتزوج غيره، بل تركني محبوسة في داري ورمى علىِ ثوبه كما هى العادة قبل الإسلام أيرضيك يارسول الله أن هذا وضع المرأة بعد أن أكرمها الله وحرم وأدها وأوصيت أنت عليها؟
سكت رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ثم قال لها: يا «كبيشة» إذهبي، وإجلسي في بيتك حتى يأتي أمر الله. فقد كان رسول الله لاينطق فى حكم جديد إلا بوحى من الله عز وجل فيقول تعالى: «وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحى يوحى*علمه شديد القوى».
قرآن كريم يتنزل فى أمر كبيشة
لم يطل إنتظار «كبيشة» في بيتها طويلاً، فقد حكم الله تعالى في قضيتها وقضية كل النساء أمثالها، ونزل قول الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات ينادى بإكرام المرأة المؤمنة ومناصرتها ضد العادات والتقاليد الجاهلية ويأمر بحق المرأة فى الميراث ، وينهى عن الإستيلاء على رزقها وميراثها رغماً عنها؛ بل ويعطيها أهليتها المالية الخاصة ويحرر لها ذمتها المالية ويسبق الإسلام بذلك كل الشرائع الأخرى والقوانين الوضعية التى إما ضيقت على المرأة أو أفرطت فى أمورها.
فيقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها»
حقوق للمرأة لم تكن من قبل
وبهذه الآيات الكريمة أبطل الاسلام ماكان في الجاهلية، وحرم على ابن الزوج أن يرث زوجة أبيه أو أن يتزوجها، وحرم زواج أبناء الزوج من زوجة أبيهم، وأعطى المرأة حريتها في الزواج بعد موت زوجها وقرر لها الحق الطبيعى فى ميراث زوجها إن كان له مال، بل أنه أعطى لها ربع ميراث زوجها إذا لم يكن له أولاد. وهكذا أنصف الله «كبيشة» ومعها كل النساء المسلمات اللاتى كن على مثل حالها فلقد حرم الله على نفسه الظلم وحرمه بين عباده.
الإسلام وتكريم المرأة
لقد كرم الله تعالى كل نساء المسلمات بتكريمه لكبيشة بنت معن التى ناضلت لحقها وحق كل المسلمات معها، وأرسى الله تعالى مبدأ احترام المرأة ومراعاة حقها منذ ذلك الوقت إلى يوم القيامة.
إن المتأمل لنصوص القرآن والسنة يجد أن الله سبحانه وتعالى قد أنصف المرأة وأوصى بها وأمر بمحبتها بل وحث عليها وأوصى على عشرتها بالمعروف وأمر بالعدل فى التعامل معها وتقوى الله جل وعلا فى معاملاتها فيقول تعالى: «وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» وإن أبرز مايميز المرأة المسلمة إيمانها العميق بالله وحسن ظنها به فهى مكرمة عند الله تعالى بقدر طاعتها له وبقدر إلتزامها بأوامره واجتنابها لنواهيه ولعل موقف السيدة « كبيشة بنت معن» يدلل لنا كيف أن ربنا عز وجل قريب من عباده مجيب لدعائهم رحيم بعباده، وكيف أنه سبحانه وتعالى كتب على عرشه: «إن رحمتى سبقت غضبى».
المزيد من التفاصيل تجدونها في العدد 1482 من مجلة "سيدتي" المتوفر في الأسواق.