نظم الله أوقات المسلم وجعل للنهار أعمالاً ولليل أعمالاً ومثله العبادات، والناس قد يخالفون هذا الناموس ويشغلون الليل بشيء من أعمال النهار، والنهار بشيء من أعمال الليل، والسهر في حد ذاته مضر حذر منه الأطباء، وأضراره ظاهرة لمن تمعن في ذلك، وعندما نتأمل واقع الناس في رمضان نجد أن هناك ظاهرة شائعة لديهم ألا وهي كثرة السهر لدى كثير من الناس، فالكثير لا يعرف النوم في رمضان إلا في النهار، فربما صار ليل البعض نهاراً ونهارهم ليلاً، والناس في ذلك مختلفون، وأسباب السهر لدى كثير منهم متنوعة، هذا هو واقع كثير من الناس، لكن ما هي الرؤية الشرعية في هذا السهر؟
الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، يقول: السهر على القيل والقال وما لا فائدة فيه أو على اللهو واللعب والمعاصي ومتابعة المسلسلات والأفلام الخليعة وما يأتي عن طريق البث التلفزيوني بواسطة الدشوش، كل ذلك سهر حرام في رمضان وغيره، وفي رمضان أشد تحريماً لحرمة الزمان، ولأن المسلم بهذا السهر يضيع أوقاتاً في الليل والنهار، وقد ينام في النهار عن أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها بسبب السهر في الليل، والله جعل الليل للنوم وجعل النهار للعمل، وهؤلاء عكسوا الأمر وخالفوا ما طلب منهم وضيعوا أوقاتهم بالسهر بالليل والنوم بالنهار.
أدب السلف
ثم تحدث الدكتور الوليد بن عبد الرحمن الفريان، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض، عن السهر فقال: السهر في رمضان إن كان على طاعة الله وعبادته وقيام ليل وتلاوة قرآن من دون أن يحبسه عن واجب أو يقعد عن فريضة، فهذا هو أدب السلف ودأبهم. وإن كان على محرم أو قطع عن فريضة، فإثم ومعصية وتضييع وانتهاك لحرمات الله وتطاول عليها، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله)، وقال (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
منافع الأمة
د. إبراهيم بن صالح الخضيري، القاضي بمحكمة التمييز بالرياض، يقول: إن كان السهر في طاعة الله تعالى من تدارس وعلم وبحث ومسائل أو حراسة ثغور المسلمين أو القيام بخدمات عملية تنفع الأمة أو نحو ذلك من أنواع الخدمة العامة للإسلام والمسلمين كطبيب أو رجل أمن أو عالم يعلم الناس الخير، فهو على طاعة، وكذلك إن كان عابداً أو مصلياً أو ذاكراً أو قارئاً للقرآن، فهؤلاء على خير عظيم ولهم عند الله جلَّ وعلا أجر عظيم.
أما السهر في اللعب أو السهر أمام شاشات التلفزة وعلى لعب الكرة أو القيل والقال وما تضيع به أعمار الناس، فإن هذا حرام ولا ينبغي، لأن الوقت هو عمر الإنسان. قال الشاعر:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
وقال آخر:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوانٍ
وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
فينبغي لنا أن نحفظ هذه الأوقات وأن نعتني بها، خاصة ليالي رمضان، فهي من أشرف الليالي وأعظمها، فينبغي لطلبة العلم بالذات أن يعتنوا بالقرآن الكريم ويولوه غاية العناية، علماً وتعلماً وتعليماً وتدريساً، توجهاً وتوجيهاً، تطبيقاً وسلوكاً ومنهجاً، وكذلك ما يتصل ببيان القرآن وفهمه، وقد كان بعض السلف إذا دخل رمضان يقول: إنما هو شهر تلاوة الكتاب وعمارة المحراب، وكان الإمام مالك يكره الاشتغال بالمسائل العلمية في شهر رمضان ويتفرغ للقرآن الكريم، والصحيح في هذه المسألة أنه إذا كان العالم ينفع الناس بعلمه فيجب عليه أن يبلغ علمه ويستغل مجامع الناس في رمضان كوجودهم في المساجد وفي الحرمين وغيرها، فيعلمهم أمور دينهم ويكثر من الدروس العلمية ومن التوجيهات والنصائح، ويستغل القلوب التي حبس الشيطان من مجاري الدم فيها بالصيام وضيق عليه، يستغل هذه المواسم الخيرة في استقطاب القلوب ودعوتها إلى علام الغيوب، وكذلك يعتني عناية فائقة بقضية إيقاظ الوازع الديني في ضمير الأمة، فإذا لم يكن ضميرك رقيباً عليك فإنك لن تكون عبداً تؤدي ما أوجب الله عليك.
النفع العاجل والآجل
د. إبراهيم السنيدي، الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، يقول: يختلف حكم السهر في رمضان باختلاف أحوال الناس، فإن من الناس من يسهر على طلب العلم الشرعي وإقامة ما تيسر من الدروس العلمية، وكذلك العبادة لله تعالى من تلاوة للقرآن وصلاة ونحو ذلك، فهذا أمر حسن طيب، أما إذا كان السهر على ما حرم الله أو فيه إشغال للوقت بما لا فائدة فيه وإهدار لهذه الأيام المباركة، فلا شك أنه ينبغي للمسلم ترك مثل ذلك واغتنام أيام الشهر الفضيل بما يعود عليه بالنفع العاجل والآجل.
دعاء
اللهم لا تنسني ذكرك ولا تولني غيرك ولا تكشف عني سترك ولا تبعدني من كنفك وجوارك وكن لي أنيسا من كل روعة واعصمني من كل هلكة ونجني من كل بلية وآفة وعاهة ومحنة وجوع وعطش وبلاء ومن كل قبيحة في الدارين إنك لا تخلف الميعاد.
في ظل آية
الغاية العظمى
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). إن من أمعن النظر ودقق الفكر في هذه الآية العظيمة ليدرك فيها منطلقات عظيمة تبرز أهمية هذه الشعيرة التي لم يكلف الله بها المسلم إلا مرة واحدة في السنة، وهو صيام شهر رمضان، فيجب ألا يصوم المسلم أي شهر أو أي يوم غيره إلا تطوعاً.
هذه الآية تدلنا على عظم هذه الشعيرة، الصيام، التي أوجبها الله على الأمم قبلنا، وهذا إشعار بعظم الصيام.
ثم بعد ذلك بين سبحانه الغاية العظمى من وجوب الصيام بقوله (لعلكم تتقون)، أي أن الهدف الأسمى من تشريع الصيام ووجوبه على الناس إنما هو حصول التقوى، ولذلك ينبغي للعبد المسلم أن يحرص على تحصيل هذه الثمرة، وذلك بحفظ صيامه من اللغو والرفث والإمساك عن المفطرات الحسية والمعنوية، ولا يكن كحال البعض الذين صاموا عن ما أحل الله لهم وأفطروا على ما حرم الله عليهم في رمضان وغيره من الغيبة والنميمة والكذب والفحش وفضول القول والنظر، لذلك يقول جابر رضي الله عنه « إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وليكن عليك من الله سكينة ووقار ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء». فإذا حصل للمسلم ذلك فقد حقق التقوى.
من هدي النبوة
بشارة للأمة
قال صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، فهذا الحديث بشارة منه للأمة بمغفرة ذنوبهم إن هم صاموا هذا الشهر الكريم، شهر رمضان، شهر القرآن، صاموه إيماناً بالله الذي أوجبه علينا بقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، واحتساباً للأجر الموعود به على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، بمغفرة ذنوب العبد، وحسبك أخي وحسبك أختي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». وهذا يدل على عظم الأجر الذي يناله الصائم مقابل صيامه. فهل نستغل هذه الفرصة ونحصل على هذا الفضل العظيم إن نحن حافظنا على صيامنا من اللغو والرفث وما يفسد الصيام أو ينقصه؟
فنسأل الله أن يقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا إنه جواد كريم.