قال د.القرضاوي: «إذا أحل ظرف طارئ ببلاد المسلمين عانت فيه الشحّ من الموارد المالية فلولي الأمر أن يقيد العمرة؛ لأنها نافلة وليست فرضًا، ويسري ذلك أيضًا على حج التطوع الذي يعد نافلة بدوره، فالمسلم مكلف بحجة واحدة، وما زاد على ذلك يعد نافلة، والقيد هنا ينصب على الحافلة التي يدفع فيها الراغب مالاً للحج أو العمرة. ولا يشمل ما كان منها بالمجان».
أضاف القرضاوي خلال فتواه: «إذا أودع المسلم حصته من المال في هذه الحالة بعد أن عقد نيته على السفر فإن العمرة أو الحجة تُحسب له، أما توجيه الزكاة لصالح إنقاذ اقتصاد البلد المسلم أو حتى تنميته، والوفاء بحقوق أهله، فذلك مما يعد في سبيل الله، الأمر الذي يدخل ضمن المصارف الشرعية المعتبرة».
ناقشت «سيدتي» هذه الفتوى مع بعض علماء الأزهر، وكانت هذه آراءهم:
موازنات الشريعة الإسلامية
الدكتور طه حبيشي الأستاذ بجامعة الأزهر: بعض الناس الأثرياء تعوّدوا أن يتابعوا ما بين الحج والعمرة أكثر من مرة في العام الواحد بالنسبة للعمرة، وفي كل عام بالنسبة للحج، وهذه المتابعة محبوبة، وغير منكرة، ولكن هذه المتابعة حين نريدها من مطلوبات الشرع ومن الأمور المرضي عنها من الشارع لابد أن تدخل في موازنات الشريعة الإسلامية، إذ إن الشريعة الإسلامية جاءت، ولها جوانب متعددة تعالج بها الأمة أفرادًا وجماعات، وما كان لبشر ولا لواحد من الناس أن يهتم بجانب من الشريعة على حساب جوانب أخرى، ولو حدث ذلك لكان من يفعله ملومًا في عين الشرع، فليس من الجائز أو من المقبول شرعًا أن أجلس في المسجد معتكفًا أقيم الصلاة فرضًا ونفلاً، وأنقطع إلى العبادة في رهبانية مطلقة بحجة أن الصلاة عماد الدين، وأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ثم أدّعي أن ماعدا ذلك من أمور الدنيا: كتحصيل الرزق وتربية الأولاد وغير ذلك من أمور سيتولاها ربي عني دون أن أصطنع لها الأسباب.
كما أنه ليس من المقبول عقلاً ولا من المسموح به شرعًا أن أصوم الدهر كله، ولا أفطر بحجة أن «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، أو أن أعتزل النساء، ولا أتزوج؛ حتى ألقى الله وقد انتصرت على غريزتي، أو أن أحرص على قيام الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وأفعل ذلك كله محتجًا بالشرع، ولو فعلت ذلك فإن الشارع صلى الله عليه وسلم سيواجهني بحديث طويل، وفيه: «أما أنا أصوم وأفطر وأنام وأقوم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
أضاف د.حبيشي: لقد جاءت الشريعة لتوازن بين أمور الحياة كلها، ما يختص منها بالفرد وما يختص منها بالجماعة. ما يحقق للفرد علاقته بربه أو علاقته بنفسه أو علاقته ببني نوعه أو علاقته بالكون من حوله.
وليس بمستوعب للشريعة من يهتم بجانب منها على حساب جوانب أخرى، إلا أن يكون قد حيل بينه وبين هذه الجوانب الأخرى، ولا يملك الأسباب التي تؤدي به إليها، فهو من أجل ذلك يكون معذورًا، حيثُ قد انقطعت به الأسباب دون فعل ما ينبغي عليه أن يفعله.
إن الحج والعمرة من الواجبات التي أوجبها الله علينا، وتحدث النبي عنها حديثًا واضحًا، أما الحج فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله فرضه علينا حين نملك أسباب أدائه، ونستطيع أن نقوم به، وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفي كل عام يا رسول الله؟ ثلاث مرات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، ثم بيّن أن فريضة الحج تكون في العمر مرة واحدة.
أما العمرة فقد اختلف العلماء في فرضيتها، فمنهم من قال: إنها كالحج تجب في العمر مرة واحدة بشرط اليسار والاستطاعة، ومنهم من قال: إنها على الندب دائمًا، والمتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه قد حج مرة واحدة، ثم اعتمر فعلاً في العامين السابع والثامن، وكتبت له عمرة القضية في السادس، ومن قال: إنه قد اعتمر مع حجته فيكون ما كتب للنبي صلى الله عليه وسلم من العمرة أربع مرات أجرًا وثوابًا، وثلاث مرات فعلاً وأداءً.
ومع أن الحج قد فرض في العام التاسع للهجرة إلا أن مصلحة الأمة والتشريع جميعًا قد جعلت النبي يبقى في المدينة لاستقبال الوفود؛ لإعداد الساحة لحجته في مكة، وليؤكد أن الحج إنما يجب في العمر مرة واحدة.
والأمة العربية بصفة عامة والمصرية بصفة خاصة في هذا الزمان تمر بظروف اجتماعية واقتصادية حادة، ومن مصلحتنا أن يترك الموسرون العمرة هذا العام، ويترك من حجّ منهم حجة الإسلام الحج هذا العام، ثم هو على رأس أمره إما أن يضع المال الذي رصده للعمرة والحج في حاجات المسلمين، وهي كثيرة، وإما أن يدخله في تجارته أو صناعته؛ ليسرع بدوران عجلة الاقتصاد في الأمة، ينوي بذلك رضا الله وسد حاجات عباده، وليعلم أن له في كل كبد رطبة أجراً، وفي كل فم مفتوح يحتاج إلى طعام حسنة، وفي كل جسم عارٍ يحتاج إلى كسوة أجر صدقة، وفي كل فؤاد فارغ من العلم يحتاج إلى تعلم نوراً، يجده يوم القيامة أينما توجه عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، ولا تطفئه سيئة، ولا تنال منه دعوة محتاج، إلا فليتوجه كل فقيه إلى نصوص الشريعة، ويروي منها غلته، ثم يتوجه إلى الجماهير يصدع بينهم بكلمة الحق ويبلغهم مقاصد الشريعة.
إسقاط الفريضة أولاً
الشيخ فرحات المنجي من كبار علماء الأزهر يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لأصحابه: أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فقالوا يا رسول الله: أفي كل عام وكرروها ثلاثًا، فقال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، إذن الفريضة تسقط بأدائها مرة واحدة، وبعد ذلك فهي أقل من نافلة لما نحن فيه الآن، خاصة أن هناك من تعوّد على أداء الفريضة أو العمرة كل عام.
وهذا زيادة على الحد، فلو أن كل من أراد أن يفعل هذا فسرها بما كان سيتكلف الأمر من مال للفقراء والمحتاجين والمستشفيات وغير ذلك، لكان حالنا أفضل مما نحن عليه.
إذن فتوى د.القرضاوي صحيحة مائة في المائة، وهناك من يتبرع بمال الحج للمرة الثانية أو الثالثة، ويكون عند الله أفضل ممن قام بأداء الحج أو العمرة أكثر من مرة، خاصة أنه إذا أدى الحج أو العمرة أكثر من مرة اعتبرت عنده عادة، ولم تكن 100 % عبادة. فهناك لنا في تاريخ الأقدمين ما يشفي صدورنا لهذا الأمر في حكاية عبد الله بن المبارك، الذي كان يسير ليلاً لتوديع أهله قبل الحج، فصادف امرأة تلتقط شيئًا من الأرض، فقال لها: ما هذا يا أمة الله؟ قالت: أيها الشيخ تنحّ عني، فقال لها: بالله عليك إن أخبرتني، فقالت له: إن هذه البيوت المغلقة إنما هي مغلقة على قلوب قد علاها الصدأ وأصابها العطب، فقال لها: وما الذي تفعلين؟ قالت: ترقبت منذ غروب الشمس امرأة ترمي بدجاجة ميتة، فانتظرت حتى هدأ الناس وأخذتها؛ لاضطراري أنا وأولادي إليها؛ لأننا لم نجد ما نطعم به، فمد الرجل يده في مخبئه وأخرج لها كل المال الذي كان سيحج به وذهب إلى امرأته، وقال لها: سأغلق عليَّ بابي ولا تخبري أحدًا بوجودي، فعاد الناس من الحج، وإذا بهم، زرافات ووحدانًا، يؤمون بيت الرجل؛ ليشكروه على هذه الدروس العظيمة التي كان يلقيها عليهم أثناء الحج، فلم ينبس الرجل ببنت شفة، حتى انصرفوا وجاء وقت تهجده وصلى، وإذا هو في سجوده يسمع من يقول له: قم يا عبد الله فإن الله قد شكر صنيعك، وأرسل بدلاً عنك سبعين ملكًا يحجون على هيئتك وصورتك، فكانوا يلقون الدروس على الناس، وهذا جزاء من عند ربك.
إذن فالصدقة بمال الحج ربما تكون أفضل من الحج أو العمرة.. فيا عباد الله اتقوا الله، وانظروا وخذوا بيد إخوانكم في هذه المحنة لعل الله يبدلها بمنحة، وكل هذا يعود على اقتصاد البلد بالنفع، حتى ينهض من أزمته.
تقديم الصالح العام
اعتبر الدكتور أحمد السايح، أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر، أن توجيه نفقات الحج باستثناء حجة الفريضة والعمرة إلى ما هو أولى، وما هو متعلق بالمصالح العامة يصل إلى حد الفرض في حالة تكرار الحج أو العمرة، باعتبار النفع المتعدي مقدمًا على النفع الخاص بحسب فقه الأولويات.
قال السايح: إن فتوى الشيخ القرضاوي لا غبار عليها مطلقًا، ولكن أضيف إلى ذلك أن يكون هناك تقديم الصالح العام على الخاص، وإذا تعارضا يقدم العام على الخاص.
إشارة إلى أن هناك استثناءات لهذا الأمر، فعلى سبيل المثال من لم يحج من قبل ولا يدري هل سوف تتوافر له الظروف المادية والاجتماعية للحج مرة أخرى فهنا يمكن له أن يحج.
وذكر السايح ما فعله مالك بن دينار الفقيه التابعي الذي كان يستعد للحج مرة أخرى، فحدثت مجاعة في البلاد، فتبرع بأموال الحج للبلاد، فهو هنا قدم المصلحة العامة على الخاصة، خاصة عندما يكون الحج نافلة؛ أي ليس للمرة الأولى