بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة ربه إلى العالمين رجالا ونساءً؛ ليُضيء مشارق الأرض ومغاربها، وليتمم مكارم الأخلاق، وكما شَرُف الكثير من الرجال بصحبته وطاعته واتباع سنته؛ شرُفت نساء كثيرات كذلك بهذه الصحبة المباركة، والتففن حول المائدة النبوية؛ لينهلن من علمه ويستضئن بنوره صلى الله عليه وسلم.
فظهرت منهن الفقيهات والمقاتلات والطبيبات، والداعيات، والرافعات راية الإسلام في بداياته، وكانت لهن عند رسول الله المكانة العالية والإشادة، وكان لكل منهن شأن معه، وفي هذه الزاوية نلتقي هؤلاء النسوة اللاتي شرُفن بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدث عنهن وكرمهن.
قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين؛ فلينظر إلى أم رومان"؛ فهي صحابية مجاهدة، ذات قلب طاهر ونفس طيبة، وهي حماة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي أم زوجته التي أحبها كثيرًا، أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق.
إنها أم رومان بنت عمر بن عويمر، من المسلمات الأُوائل، تزوجت بعبد اللَّه بن الحارث، وأنجبت منه الطفيل، وكان قد قدم بها إلى مكة، فحالف أبو بكر الصديق الحارث، ولما مات الحارث تزوجها أبو بكر الصديق؛ فأنجبت منه: عبد الرحمن وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
وكان أبو بكر ـ رضي اللَّه عنه ـ متزوجًا قبلها بامرأة رفضت أن تدخل الإسلام، وكان عنده من الولد عبد اللَّه وأسماء رضي الله عنهما، فكانت تُحسن معاملتهما وتحنو عليهما كحنوها على ولديها، فكانت لهما نعم الأم البديلة المسلمة.
أم العروس: بعد وفاة السيدة الجليلة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها وأرضاها، حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموتها حزنا كبيرا، وظل عامين عازفا عن الزواج؛ حزنا على فراقها.
وأراد الله تعالى أن يُسري عن نبيه الكريم، ويُذهب حزن قلبه، ويأذن له في الزواج بامرأة أخرى تعوضه عن غياب الحبيبة التي لا تُنسى، فأراه الله تعالى في منامه صورة للسيدة عائشة على لفافة من حرير خضراء مع صوت يقول: «هذه زوجتك»، ولما تكررت هذه الرؤيا أكثر من مرة (ورؤيا الأنبياء صدق) علم أن الله تعالى قد اختار له عائشة زوجةً؛ على الرغم من أنها كانت مازالت صغيرة، ومنذ أن خطب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عائشة –رضي الله عنها- كان يوصي بها أمها ويقول لها متهللاً: يا أم رومان "احفظيني فيها".
ومن ذلك الحين وأم رومان تتشرف بقرابة المصاهرة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان لها عند رسول الله مكانة خاصة؛ لتُقَاها وإيمانها وشدة إخلاصها للإسلام.
كما أن «أم رومان» التي يقال إن اسمها الحقيقي زينب لكن غلبت عليها كنيتها، كانت زوجة لأبي بكر الصديق الصاحب الأمين لرسول الله؛ مما زاد من مكانتها عند النبي الكريم.
سماتها: كانت أم رومان نعم الزوجة الوفية المؤازرة لزوجها والمحفزة له على الطاعة والبذل بالمال والجهد في سبيل الله، فكانت تشجعه على الإنفاق والتصدق وتحرير العبيد، حتى إن أبا بكر لما خرج مع رسول الله في رحلة الهجرة إلى المدينة أخذ كل ما لديه من مال وترك خلفه بناته وأولاده وزوجته أم رومان!
فصبرت أم رومان ولم تتذمر، ولم تشك بل دبرت أمر بيتها؛ حتى لحقت به مهاجرة إلى المدينة؛ لتبدأ حياة جديدة بجوار زوجها ونبيه الكريم.
نعم الزوجة: كانت أم رومان نعم الزوجة التي انشرح قلبها إلى الإسلام منذ بداياته، فعُرف عنها حب التصدق، والبذل وشدة الكرم، والعطاء وحُسن التبعل لزوجها، والحرص على رضاه، وتلك الصفات ورثت منها السيدة عائشة –رضي الله عنها- ابنتها الكثير والكثير.
رحلة الهجرة: سبق أبو بكر الصديق زوجته أم رومان مهاجراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقت به زوجته صابرة محتسبة على فراق مكة، وعلى أذى المشركين، ومحاصرتهم المسلمين في كل مكان.
كانت أم رومان أما حنونا، ووالدة عطوفا؛ ففي طريق الهجرة هاج بَعِيرُ السيدة عائشة، فصاحت أم رومان خائفة على ابنتها:
"وابنتاه، واعروساه" فسكن البعير، ووصلت القافلة إلى المدينة بسلام، وهناك أخبرت أم رومان ابنتها عائشة بأنها ستتزوج بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعن قريب ستصبح عروسا.
حُسن تربيتها: كانت أم رومان تحب ابنتها عائشة حُبّا عظيمًا، وكانت تعدها لتصبح عروسا للمستقبل القريب الذي ينتظرها مع سيد الخلق أجمعين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعلنا نتعجب! كيف كانت بنات العرب الصغيرات سناً يتزوجن حينها؟! إلا أننا إذا علمنا كيف كانت الأمهات يربين بناتهن ويغذيهن ويعلمهن فقه الزواج، وكيف تكون الحياة الزوجية لزال العجب.
فقد كانت الفتاة تعد للزواج مبكرا، وتتعلم كيف تصبح مسؤولة عن بيت وأسرة وهي في سن صغيرة.
وبعد نصر الله المسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى في شوال عام 2 هجرية، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها، وكانت أم رومان –رضي الله عنها- قد هيأت عائشة؛ لتكون زوجة في بيت النبوة وأوصتها وعلمتها كيف تكون الزوجة لزوجها جميلة محبة مطيعة.
أم رومان وحادثة الإفك: وفي حديث الإفك الذي تكلم فيه بعض المشركين عن سيدتنا الطاهرة أم المؤمنين عائشة، وسمعت به أم رومان أُغْمِى عليها؛ حُزْنًا على ما أصاب ابنتها، ولما أفاقت أخذت تدعو اللَّه أن يظهر الحق، وأخفت الأمر عن ابنتها خوفا عليها من الحزن، إلا أن السيدة عائشة علمته مصادفة، فظلت الأم تواسي ابنتها ودموعها تتساقط، وجعلت تقول:
«أي بنية، هوِّني عليك، فواللَّه لَقَلَّ ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها، ولها ضرائر إلا كثرن وكثر عليها الناس»، ولمّا انكشفت غمامة الإفك، ونزل قرآن كريم يشهد ببراءة وعفة السيدة عائشة رضي الله عنها، انشرح صدر أم رومان، وحمدت اللَّه على براءة ابنتها، وتكريم الله لها، وكانت طوال هذه الحادثة نعم الحماة العاقلة التي لم تتفوه بما يُغْضب الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- الذي كان زوجاً لابنتها؛ فكانت نعم الحماة التي تحب زوج ابنتها، وتصون اسمه، وتحرص على محبته.
صلاتها: عاشت أم رومان رضي الله عنها قانتة عابدة لله، تصلى الصلاة، كما أشار بها رسول الله، وكما علمها أبو بكر الصديق زوجها، فقد قالت:
رآني أبو بكر الصديق أميل في الصلاة، فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه، ولا يميل ميل اليهود؛ فإن تسكين الأطراف من تمام الصلاة»، ومن يومها وأم رومان تصلي كما أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وفاتها: ظلت أم رومان على عبادتها وتقواها، يزيدها العمر إيماناً على إيمانها وتقوى على تقواها، وكانت شديدة المحبة والاتباع لله ورسوله، ولما كانت السنة السادسة من الهجرة توفيت «أم رومان»، وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم قبرها، واستغفر لها اللَّه وأثنى عليها وقال:
«من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان»، ولم ينزل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبر أحد إلا خمسة قبور: ثلاث نسوة ورجلين، منها قبر السيدة خديجة –رضي الله عنها- بمكة، وأربع بالمدينة:
قبر ابن خديجة رضى الله عنها، وقبر عبد الله المزني المسمى «ذو البجادين»، وقبر أم رومان حماته، وقبر فاطمة بنت أسد زوجة عمه، ومن ربته رضي الله عنهم أجمعين.