إذا لم أكتب فسأُجن..

مها الأحمد 
مها الأحمد
مها الأحمد

الكتابةُ فعلٌ مؤثِّرٌ، و"تشافي". هي رغبةٌ داخلنا، تصرخُ لمنحها الحقَّ في التعبيرِ، والإفراطِ في تكوين الجملِ، وبناءِ المشاعرِ، وتبادلها وفهمها. يأخذنا من العالمِ الواقعي إلى عالمٍ مختلفٍ، يضعنا أمامَ كل التفاصيلِ، ويتركُ لنا حريَّةَ تغييرها، والسيطرةِ عليها، كترتيبِ أحداثها، وشكلِ الزمنِ المصاحبِ لها. يمنحنا الحقَّ بأن نتخطَّى أعواماً، ويهدينا سرَّ الأمنيةِ حتى وإن لم نستحقَّها، ولم نسعَ إلى الحصولِ عليها. نتعلُّم ماذا نتمنى في الواقعِ، لأننا نعرفُ ما نريدُ بالتحديدِ حينما نكتب.

حينما يتحكَّم كاتبٌ بمصيرِ الكلماتِ والأبطالِ، هو بذلك يتحرَّرُ من نفسه، ومن ثقلِ المشاعرِ التي لم يجد لها مكاناً، يستقبلها في الخارج، فعادت إليه منتقمةً منه، وكأنَّه المسؤولُ وحدهُ عن مصيرها!

حينما نكتبُ، نستدعي ما في داخلنا من مشاعرَ، لتمسكَ قلمَها الخاص، وتُحدِّد مصيرها، حجمَها وشكلَها وصوتَ ألمها، والأوصافَ الأقربَ لها، وتكثِّف كما شاءت من أثرها، دون أن تُحمِّلك ذنبَ المبالغةِ في الحديثِ عنها، أو الحرجِ والخجلِ من انحرافاتها.

في أحدِ اللقاءاتِ التي أجريت مع الكاتبةِ كاثرين هاريسون، صرَّحت بأنَّ دافعَها الأوَّلَ للكتابةِ، هو ضغطُ مشاعرَ جائعةٍ، استمرَّت تلحُّ دون جدوى، ولم تستطِع أن تُطعِمها، أو تُسكِت ضجيجها إلَّا عندما خرجت على شكلِ نصوصٍ، جعلت من الكتابةِ قيمةً لذاتها. هي التي كانت تبحثُ عن الاستحقاقِ والمحبَّةِ من والدتها، كانت تكتبُ وتكتبُ، عسى أن تراها كما يجب! من ثم أصبحت تُقدِّم هذا الطلبَ للحياةِ، لتجعلها تُقرُّ بحقِّها، وتمنحها إياه حتى تعيشَ كما تحب: "عمليةُ نحت النصِّ على الصفحةِ، وكونك قادراً على الإفصاحِ بشكلٍ صحيحٍ، لا تُعزِّيني فحسب، بل وتمنحني أيضاً مكاناً أعيش داخله" بأي شكلٍ عن طريقِ الصدفِ، والحظِّ الوفيرِ. كما أنها تصفُ فعلَ الكتابةِ بأنها الأداةُ الوحيدةُ الناجحةُ لتفسيرِ العالمِ من حولها.

وهنا، تُعبِّرُ الكاتبةُ جينفر إيجان كذلك عن حالتها حينما تتوقَّفُ عن الكتابةِ، وتصفُ وحشةَ المشاعرِ التي تنهالُ عليها حتى تُصابَ باكتئابٍ خفيٍّ، لا تظهرُ أعراضُه، ولا يكشفُ عن نفسه إلا إذا توقَّفت يداها عن الحركةِ والكتابةِ: "حينما لا أكتبُ، يجتاحني شعورٌ بفقدِ شيءٍ ما، وإذا طالت بي الحالُ، تزدادُ الأمورُ سوءاً، وأصابُ باكتئابٍ، حينها يكفُّ أمرُ مصيري عن الحدوثِ، عطبٌ بسيطٌ يشرعُ بالتكوينِ، كما لو أنني أهبطُ من تلَّةٍ بفعلِ الجاذبيةِ وحدها).

ويؤكِّدُ جيمس فري بكلماتٍ شبيهةٍ بما تحدَّثت به جينفر حينما قال: "إذا لم أكتب، فسأجن".

فعلُ الكتابةِ، يفرزُ مادةً هضميَّةً، تساعدنا في التخلُّصِ من أثرِ الأحداثِ التي عجزَ اللسانُ يوماً عن نطقها، توفِّرُ عنَّا عناءَ البحثِ عن الشخصِ المناسبِ الذي نستطيعُ معه أن نتعرَّى دون أن نُصابَ بقشعريرةٍ، نمرضُ منها أكثر. هي التي تجعلنا نعتادُ على الكلمةِ، ولا نعتادُ ألمها. إنها بمنزلةِ شهادةِ ميلادٍ لمشاعرنا بتاريخِ نضجٍ جديدٍ بعد أن أُعتِقنا من عبوديةِ مخاوفنا، وعُقدنا، وترسُّبات الماضي الذي لم نعد قادرين على نسيانه، فكتبناه لنتحرَّر.