هذا تحليلٌ لخدعةٍ اسمها: #الزمن_الجميل!

أحمد العرفج
أحمد العرفج
أحمد العرفج

لقَد أَزعجنَا خَلقٌ كَثيرٌ بعِبَارَاتٍ مِثل: «الزَّمَن الجَميل»، «الطَّرَب الجَميل»، «زَمَن الطَّيبين»، و«حيَاة المَاضِي السَّعيدَة».. إلخ، وكَأنَّ الحَاضِر سِلسلَةٌ مِن البَشَاعَة، التي لَا جَمَال ولَا رَوعة ولَا سرُور فِيهَا..!

لقَد تَسَاءَل أَكثَرُ مِن شَخصٍ عَن مَدَى صَلاحيَّةِ وسَلَامةِ الفِكرَةِ القَائِلَة بقَصْرِ عِبَارة «الزَّمن الجَميل» على الماضي الذي تولى، ولَعلَّ أَوَّل مَن أَشعَل قَنَاديل الأَسئِلَة، وحَاول الإجَابَة عَن سَبَب وَصفنَا للمَاضِي بالجَمَال، هو الكَاتِبُ الكَبيرُ «أحمد أمين»، الذي يَروي عَنه الصَّحفي الأُستَاذ «أسامة غريب» فِي كِتَابه «مِصر لَيست أُمِّي.. دِي مِرَات أَبويَا»، قَائِلاً: «تَذكَّرتُ كَلَامًا، قَرأتُه للأُستَاذ أحمد أمين، كَان يَتحدَّث فِيهِ عَمَّا تُسمِّيه النَّاسُ بالزَّمَن الجَميل، وحَنينهم الدَّائِم للأيَّام الخَوَالي، واعتقَادهم اليَقيني أَنَّ أَصدقَاء زَمَان، هُم الأَصدقَاء الحَقيقيّون، وأَنَّ أَفلَام زَمَان هي السِّينمَا الحَقيقيَّة، وأَنَّ غِنَاء زَمَان هو الطَّربُ الحَقيقي، وقَد فَسَّر الأُستاذ أمين الأَمرَ عَلى نَحو أَعجبني جِداً، حِين قَال مَا مَعنَاه: لَو كَان هُنَاك فِي الأَمر شَيءٌ جَميلٌ أيَّام زَمَان، فهو أَنْت.. أَنْتَ الذي كُنتَ جَميلاً بشَبَابك، وإقبَالك عَلَى الحيَاة، بتَفاؤلك ورُؤيتك للأشيَاء والنَّاس بحُسن نيَّةٍ.. الجَميلُ هو مَشَاعركَ الخضرَاء الغضَّة، وتَفتُّح مَسَام قَلبك للحيَاة والحُبّ.. الجَميل لَيس طَبَق الفُول الذي كُنتَ تَتنَاوله عَلى الرَّصيف، ومَا زَلتَ تَعتَقد أنَّه أَروَع مَا أَكلت فِي حيَاتك، ولَكنَّ الجَميل هو مِعدتك الشَّابة العَفيَّة، التي كَانَت تَهضم الزَّلَط، قَبل أَنْ تَعرف الزَّانتاك والفوَّار وأَدوية القَولُون»!

في النهايةِ أقولُ:

إنَّ الحَنين إلَى المَاضي، لَيس حَنيناً خَالِصاً لوَجه المَاضِي، بَل هو حَنينٌ إلَى النَّفس، وأنَّ استحضَارَ تَفَاصيلِ الأحدَاثِ والأمَاكنِ مُجرَّدُ مُحَاولةٍ يَائِسَةٍ لتَوثيق ذِكريَاتِ أَعمَارنا، التي تَنسَابُ مِن بَين «أَصَابع الزَّمن»، ما يُحيلنا إلَى ذَلك الشَّاعِر، الذي سَئِمَ مِن سَمَاع عِبَارة «مَا أَجمَل بَاريس»، فشَعر بأنَّها جُملَةٌ مَبتورةٌ، لَا تُنصف عَلَاقته الحَميميَّة ببَاريس، فأَعَاد صيَاغة العِبَارة قَائلاً: «بَل مَا أَجمَل بَاريس حِين كُنتُ أَنَا شَابًّا»..!!

نعم، نحن نتشوَّقُ إلى الماضي، ليس لأنه جميلٌ.. بل لأنه رحلَ، ولن يعودَ، ولو عادَ لكرهناه.. ولقد صَدَق الفيلسوفُ بليز باسكال حين قال: "نحن نحبُّ الماضي، لأنه ذهب، لكنْ لو عادَ لكرهناه"!

يا قوم؛

اعلموا أن كلَّ مَن يردِّدُ عبارةَ #الزمن_الجميل، هو شخصٌ، دخلَ دائرةَ "الشيخوخةِ" حتى لو كان في العشرين من عمره، لأنه شخصٌ، يعيشُ في الماضي، ويتجاهلُ خيراتِ وبركاتِ الحاضرِ، وجماليَّاتِ اللحظةِ الراهنةِ التي هي أصدقُ لحظاتِ الزَّمن!

وأخيراً؛ إنني دائماً أردِّدُ بيتَين للشاعرِ الكبيرِ أحمد الصافي النجفي حين يقولُ:

سنّي بروحي لا بِعَدِّ سنين

‏فَلأسخرنَّ غداً من التسعين

‏عمري من السبعين يركض مسرعاً

‏والروحُ ثابتةٌ على العشرين"!