عندما نتحدَّثُ عن نجمِ العربِ وفنَّانهم محمد عبده، يعتقدُ مَن حولنا أننا لا نحملُ عنه في ذاكرتنا الكثيرَ باستثناءِ أغنياته! والحقيقةُ أن جيلي يرتبطُ به ارتباطاً أكبرَ وأعمقَ من ذلك، فنحن ببساطةٍ، لولا وجودنا في زمنِ محمد عبده لما عرفنا أن الفنَّ مهمَّةٌ سهلةٌ للغاية، لكنَّها أيضاً تتطلَّبُ ذكاءً كبيراً، فجميعُ مَن كانوا حوله من نجومٍ شبابٍ في زمننا، كانوا يبذلون مجهوداً مضاعفاً للبقاءِ، بينما كان فنَّانُ العربِ يُغني "أغنياتٍ جميلةً" وفقط.
النجمُ محمد عبده بالنسبةِ إلى جيلِ الثمانينياتِ والتسعينياتِ "الأيقونةُ" التي ظلَّت متفرِّدةً طوالَ كلِّ هذه السنواتِ، ولغايةِ اليومِ بهذه البساطةِ، فعلى المسرحِ، لم نره يوماً بطاقةٍ أقلَّ، أو نسمعه يتحدَّثُ أكثر ممَّا يُغني، أو يُعامِلُ أحدَ أعضاءِ فرقته، أو الحضورِ بطريقةٍ غير لائقةٍ، وفي البرامجِ لطالما تحدَّث بهدوءٍ، ولطفٍ، وعفويَّةٍ، و"ثقافةٍ"، وفي الكواليسِ، لم يحكِ أبداً عن حياته الخاصَّةِ. أمَّا فنياً، فلم يمنحنا أغنيةً ناقصةً، ولو لمرَّةٍ واحدةٍ، فمهما مرَّ من الوقتِ، سيجدُ القصيدةَ المناسبةَ، واللحنَ الممتعَ والمتجدِّدَ. محمد عبده ببساطةٍ حالةٌ فنيَّةٌ، لن تتكرَّر، وكنا محظوظين بأننا عاصرناها، لا سيما أننا جئنا في وقتٍ، اختلَّت فيه كثيرٌ من المعاييرِ وفي مراحلَ عدة.
بوصفي صحفيَّةً، فتحت عينيها على صحافةٍ منقسمةٍ إلى مجموعاتٍ كثيرةٍ، واحدةٌ فقط كانت معه، بينما كانت البقيَّة تعملُ ضدَّه في محاولةٍ للظهور، تعلَّمتُ وأنا أراقبُ ردودَ أفعاله، أن الذكاءَ بأن تشاهدَ اللعبةَ، وتستفيدَ منها قدرَ الإمكانِ، دون أن تشاركَ فيها أبداً. هو كان يُحرجهم بالصمتِ، من ثم يُقابلهم، فيُحرجهم بالتجاهلِ، وكأنَّه لم يقرأ، أو يسمع شيئاً، لدرجةِ أنني كنت أصدِّقُ أنه لا يعلمُ شيئاً عمَّا يحاولون إثارته من جدلٍ بحكاياتهم غير الصحيحةِ، لكنْ مع مرورِ الوقتِ، عرفت أن سياسةَ محمد عبده أن يقفَ بعيداً عن كلِّ شيءٍ، وأن يقتربَ فقط ممَّا يستحقُّ منه أصلاً أن يتعاطى معه من أسئلةٍ وموضوعاتٍ.
في فبراير من عامِ 2020، كانت المرَّةُ الأولى التي أشاهدُ فيها النجم محمد عبده يُغني على مسرحٍ خارجَ السعوديَّة، وشاركه الفنَّانُ حسين الجسمي، والفنَّانةُ أحلام "أوبريت" ختامِ مهرجانِ الفجيرة للمونودراما. هناك عرفتُ حقيقةً جديدةً، وهي أن محمد عبده "الدينمو" الذي يلتفُّ حوله جميعُ النجومِ دون استثناءٍ، ويستمدُّون منه طاقتهم، إذ وجدنا عديداً من الأمورِ التنظيميَّة غير المكتملةِ، ومع ذلك خرج فنَّان العربِ في أفضلِ حالاته تقديراً للمكانِ والحضورِ. وعلى الرغمِ من أنه كان مرهقاً في الكواليسِ بسبب ضيقِ وقتِ التحضيراتِ إلا أنه وفور وقوفه على المسرحِ، استطاعَ أن يمرِّر من طاقته للجسمي وأحلام اللذين بدا عليهما القلقُ، وفي لحظاتٍ قليلةٍ تجلَّى الجميعُ.
في السابقِ، كنتُ أعتقدُ أن هذا الأثرَ يمتدُّ للنجومِ السعوديين عندما يكونون حوله، لكنَّه في الحقيقةِ يمتدُّ لكلِّ النجومِ من كلِّ مكانٍ طالما أنهم يشاركونه اللحظة. محمد عبده قادرٌ على أن يقدِّمَ أفضل ما عنده، وأن يعكسَ ذلك على محيطه بسلاسةٍ ودون أن تشعر، ودائماً ستجده ومَن معه في حالةِ تناغمٍ، وبطاقةٍ متوازيةٍ.
أشاهدُ كثيراً من الفنَّانين السعوديين معاً على المسرحِ، أو في مواقعِ التواصلِ، لكنني لم أجدهم يوماً في حالةِ تناغمٍ أجملَ من تلك التي جمعتهم بمحمد عبده حينما كان يعزفُ لهم على العودِ في إحدى البروفاتِ عام 2018، ويغنُّون معاً "كلنا سلمان.. كلنا محمد". مشهدٌ من المستحيلِ أن يتكرَّرَ لراشد الماجد، رابح صقر، عبدالمجيد عبدالله، ماجد المهندس، ووليد الشامي. فقط لأنهم كانوا حول محمد عبده.
هل سبق أن شاهدتَ نجماً يُغني في كلِّ مرَّةٍ، فيتفاعلُ معه الجمهورُ بالطريقة نفسها مع كلِّ أغنيةٍ على الرغم من اختلافِ قائمة الأغنياتِ، والمكانِ، والزمنِ؟! هذا يحدثُ فقط مع محمد عبده.. حتى آخرِ حفلةٍ.
هناك قاعدةٌ فنيَّةٌ تقولُ: إن لكلِّ نجمٍ نقطةَ قمَّةٍ، قبلها ستكونُ نجوميته في حالةِ تصاعدٍ، وبعدها ستصبحُ في حالةِ تراجعٍ. لكنْ هناك نجمٌ واحدٌ في العالمِ، وليس في الوطنِ العربي فحسب، لم تكن له نقطةُ قمَّةٍ، بل فرض مساحةً عريضةً منبسطةً، لا نهايةَ لها. إنه فنَّان العرب محمد عبده.