الظلال القاتمة

 الظلال القاتمة

 

سيدتي رسالتي هي رغبة مني في المصارحة والتخفف من عبء نفسي كاد يفتك بي. أنا سيدة متزوجة، تشعر بأنها في براثن مرض نفسي لا براء منه. أنا عصبية أثور لأتفه الأسباب،  وتستمر نوبات الثورة طويلا، وتصل إلى حد البكاء والصراخ علما بأنني أتمتع بكافة النعم والرفاهية، ولا ينقصني المال والجمال، وأعيش مع زوج محب حنون وأبناء. ولكني أكتم سرا من الماضي يلاحقني يوميا رغم محاولاتي لنسيانه ومحوه من ذاكرتي تماما.

أنا الآن في الثلاثين، وحين كنت في الثامنة تعرضت للتحرش المتكرر من قبل زوج خالتي. كانت خالتي لا تنجب، وكانت تطلب من أمي أن ترسلني إلى بيتها؛ لكي أؤنس وحدتها فتلبي أمي الطلب. وكان زوج خالتي يتحين الفرص؛ ليدخل غرفتي، وأنا نائمة ويلامس جسدي؛  لكي يفرغ شهوة غير مشبعة، ولم يسعني وأنا طفلة إلا التظاهر بالنوم، وأنا في حالة خوف وذهول، وفي غياب أية توعية جنسية.

فكرت مرارا أن أروي لأمي ما حدث، ولكني كنت أهابها لصرامتها المفرطة، وخوفا من أن تعاقبني أو تكذبني؛ لكي تدرأ الاتهام عن زوج أختها المعروف في العائلة ببشاشته، وحبه للأطفال، فصمتّ وتكرر فعل التحرش مرارا على مدى سنوات.

كنت أبغض ما يحدث، ولكني لم أسلم من تبعاته، حيث إنني وقعت فريسة خيالات جنسية من قبل أن أبلغ العاشرة، وعرفت طريقي لممارسة العادة البغيضة، وكنت أتحين الفرص؛ لكي أخلو إلى نفسي لأعيش مع خيالاتي المريضة، وأتحين الفرص للعثور على برامج تليفزيونية  مثيرة للغرائز، بل واستدرجت أخي الذي يصغرني إلى عالمي المريض. تراجع مستواي الدراسي كثيرا، ولكني لم أكن أرسب في الامتحانات، وحين بانت عليّ أمارات الأنوثة في سن البلوغ أدمنت قراءة المطالعات الإباحية، وكانت نظرات الشباب إليّ ترضيني، وأصبحت أشجعها؛ لأنني لم أكن أرَ الرجل إلا في إطار الجنس والشهوة.

حين بلغت الرابعة عشرة تبدلت العلاقة بيني وبين زوج خالتي الذي صار يتودد إليّ جهرا، ويحاول ملامستي واستدراجي إلى ما هو أبعد، وكنت أصده أحيانا، وأشجعه أحيانا من دون أن أسمح له بأن يسلبني بكارتي، ولكني في الوقت نفسه كنت أكرهه كرها شديدا. وكم فكرت في مصارحة أمي ولكن خوفي منها كان يلاحقني، ثم اهتديت إلى فكرة، وهي أنني طلبت منها الانقطاع عن زيارة خالتي؛ لأن ابنة خالتي الأخرى صارحتني بتجربة مرت بها مطابقة لما حدث لي مع زوج خالتي. أي أنني اعترفت بما كان، ولكن تظاهرت بأن ما حدث حدث لفتاة أخرى، وبدلا من أن تثور أمي أو تفعل شيئا لحماية الضحية سكتت تماما؛ خوفا على سمعة العائلة، وعلى زوج الخالة الذي يعتبرونه رمزا للخلق الحميد.

صرت أكذب وأخون أمانة الأهل، وأهاتف الشبان وأرتبط بعلاقات عابرة. أصبحت شخصية مهزوزة سهلة الانقياد فاقدة الثقة تكذب، وتضرب بكل القيم التي تربت عليها عرض الحائط.  رغم كل ما فعلت افتقدت القدرة على الدفاع عن نفسي في كافة المواقف أو إبداء رأي.

في تلك المرحلة نشأت بيني وبين شاب من أقاربنا قصة حب ظلت بعيدة عن حياتي السرية وظلت طاهرة. تعاهدنا على الحب والزواج، وكنت في بداية دراستي الجامعية، وبالطبع كانت أمي هي المسيِّر الوحيد لكل أمور الحياة بدون أن تستشيرني في أي أمر. وكان الأمر كذلك حين تقدم لي الرجل الذي تزوجت. فرأت أمي أنه عريس لقطة، وجاهدت جهاد الجبابرة لكي يتم الزواج، ومن رحمة الله أن زوجي كان مغتربا في بلد آخر بحكم عمله، وأنني بعد الزواج سافرت معه خارج الوطن بقلب كسير حزين على الحب الذي كان، وحملت معي عقدة ذنب جديدة؛ لأنني خنت عهد الحب بسبب عدم قدرتي على الدفاع عن حقي في اختيار زوجي.

اكتشفت بعد الزواج أن زوجي طيب القلب بحق، كريم، ودود، يحاول إسعادي بشتى الطرق وأنجبت منه طفلين. ولكن بسبب ماضيّ المظلم تنتابني تلك الحالة التي وصفت، فتصيب زوجي بالذهول، ويحاول أن يسايرني بشتى الطرق؛ لكي أسترد هدوئي. أشعر بأنني فاشلة في كل شيء وخصوصا في أمومتي؛ لأنني فاقدة الثقة في كل الناس. أخاف على ابنتي خوفا يشل تفكيري إلى درجة أنني أصر على أن تنام في غرفة مستقلة بعيدا عن أخيها، كما أنني أراقب ولدي، فأتصور أنه يهتم بأعضائه التناسلية أكثر مما ينبغي فأشك في سلامته النفسية،  وأبكي بحرقة خوفا من أن يعاقبني الله في أولادي. ولا أعلم ما الحدود الفاصلة بين توعية أولادي وبين بث الذعر في نفوسهم، وزرع أفكار غريبة يمكن أن تؤذيهم فيما بعد. أشعر بالضياع والذنب والخوف من الحاضر والمستقبل، وكأنني في فخ لا يمكن الخروج منه. أرجو مساعدتي.

 

 

الضائعة ش. ش

عزيزتي أول خطوة على طريق شفائك هي كتابة هذه الرسالة. سوف تدركين كم تخففت من عبء الكتمان في غضون أيام أو أسابيع. الاعتراف بما كان هو بمثابة فتح نافذة تدفق من خلالها الضوء إلى ذلك المكان المعتم في دواخلك، حيث عشت مع السر الرهيب الذي استعمر حياتك حتي هذه اللحظة. مهما بالغت في وصف ما تعتبرينه تواطؤا مع زوج الخالة الدنيء،  ذكّرى نفسك بأنك كنت طفلة لا حول لها ولا قوة حين بدأت تلك التجربة. كنت الضحية وكان هو المذنب. ولولا الخوف من أمك التي كان يجدر بها أن تحميك، لا أن تربيك بأسلوب صارم مخيف لاعترفت لها مبكرا مثلما اعترفت لها لاحقا، وتظاهرت بأن الأذى لم يلحق بك أنت بل لحق بفتاة أخرى، فأدى ذلك إلى موافقة الأم على انقطاعك عن زيارة بيت خالتك.

من المؤسف أن رد فعل تلك الأم واسع الانتشار، حيث تكتمت الأمر، وكأنها توافق ضمنيا على التستر على مجرم؛ خوفا على المجرم، لا خوفا على أطفال أبرياء ما دامت الضحية ابنة امرأة أخرى، أو هكذا تظن...

ما تتمتعين به الآن من نعم هو من عند الله، وكأن الله يمد لك حبلا للنجاة فإذا بك تحاولين قطع الحبل بطرق لا واعية. في الوقت الحالي أنت في قبضة صراع نفسي بين شقي نفسك: شق يقدر النعمة ويخاف عليها من الزوال، وشق يوحي إليك بأنك لا تستحقين النعمة، وأنك تستحقين العقاب على ما حدث في الماضي؛ لأنك لم ترفضي بل وافقت، واتسعت شهواتك إلى أشياء وأفعال أخرى، ولذلك تنتابك تلك الحالات الهيستيرية التي تصيب من حولك بالذهول؛ ربما سعيا من ذلك الشق من نفسك إلى تدمير بنية الزواج.

خوفك على أولادك مشروع، ولكن حماية الطفل لا تتأتى بالخوف المبالغ فيه، وإنما بالإنصات إليه والترفق به، وتوعيته تدريجيا بأن جسده ملك خاص له، ولا حق لأي طرف آخر أن يتعدى عليه. وأنه لو شعر يوما بقلق من جراء تصرفات أي إنسان مهما كان موقعه  في حياة الطفل فعليه أن يأتي إلى أمه، ويعبر عن مخاوفه بلا تردد. على الطفل أن يقتنع بأن الأبوين هما حائط الأمان، ومستودع الأسرار، وأنه لن يعاقب على أي فعل إذا تعامل مع أبويه بصدق وصراحة.

اجلسي ومعك ورقة وقلم، ودوني الإيجابيات، ومنها البعد الجغرافي الذي يفصلك عن المجرم الذي اغتال براءتك.

ومنها نعمة الزوج المحب والولد، ومنها معرفتك بالأخطار المحدقة بالأطفال، ومنها المال الكافي، والقدرة على التعبير عن حالتك.

لو خلوت إلى نفسك عشر دقائق كل يوم؛ لكي تذكري نفسك بأنك كنت ضحية أولا وأخيرا لوضعت مسافة بينك وبين المحركات النفسية التي تدفعك نحو تدمير استقرار حياتك. لو استطعت فاطلبي من زوجك زيارة طبيب نفسي؛ للعلاج من العصبية والتوتر، وأكدي له أنك تحرصين على حياتك معه، وأنك تحبينه كل الحب. وأنك تتمنين أن تكوني في أفضل حال؛ لكي تسير حياتكما من حسن إلى أحسن. العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة سرية، فلا تخافي من انكشاف السر، والجلوس مع الطبيب على مدى جلسات سوف يرد إليك الإحساس بالأمان، وبأنك قادرة على تجاوز الماضي لا نسيانه. سوف يمكنك أن تنظري إلى تلك التجربة، وكأنها خارج نفسك لا داخلها. سوف تنظرين إليها فتأخذ حجما أصغر مما احتلت حتى وقتنا هذا، وتفسح مكانا لتجارب أخرى إيجابية تشعرك بأنك لم تعودي طفلة في الثامنة لا حول لها ولا قوة، بل إنسان بالغ له إرادة، ويمتلك كافة وسائل الدفاع الذاتي.

تذكري أن التجارب التي لا تقتل تقوي صاحبها. ربك يريد لك الخروج من الأزمة فاستجيبي.

 

 

الحرب والسلام

سيدتي ما يحدث في وطني ليبيا لا يمكن أن يتصوره عاقل. حياتنا في ظل الظروف الرهيبة هي أسوأ ما يكون. بيوت أسرتي كلها تهدمت؛ ولذلك خرجنا تحت وابل القتال العنيف ننتقل من مدينة إلى أخرى. كنت قبل اندلاع القتال أعيش تجربة صعبة مع زوجي؛ لأننا لم ننجب رغم مضي سنوات على الزواج. وكان زوجي يرفض فرصة العلاج تماما. المهم هو أنه كان قد وافق على أن أستشير طبيبا في مدينة مجاورة للمدينة التي نقيم بها، وسافرنا قبل بدء القتال بأيام. وأجرى لي الطبيب فحصوات بالمجهر، ولم يجد عائقا عن الحمل، وطلب من زوجي إجراء بعض الفحوصات الخاصة، ووعد بإرسال النتائج لنا في أقرب وقت بدلا من الانتظار، حيثُ إن زوجي كان متعجلا في العودة بسبب عمله. وعدنا لنجد أن بيتنا سرق ونهب كل ما فيه من متعلقات. ومنذ العودة كان زوجي حزينا وكنت أهون عليه، وأؤكد له أنه مهما كانت الظرو ف، ومهما كانت نتائج الفحص فإنني لن أتأثر؛ لأن السعادة التي بيننا لن يبدلها شيء. وفوجئت به ينهار ويعترف بأنه لم يجر الفحوصات التي نصح بها الطبيب. فتمالكت نفسي، وقلت له إن العمر مازال طويلا إن شاء الله. وحاولت أن أسانده. كنت ألاحظ أنه لا ينام نوما عميقا.

وفي أحد الأيام استيقظت ولم أجد له أثرا. اتصلت به فلم يجب، وغاب أكثر من أسبوعين إلى أن علمت أنه توجه إلى المدينة التي يقيم فيها أهله، وأنه لا يعود إلا للنوم فقط. بعدها تأكدت أنه هرب إلى غير رجعة حين راجعت البنك، وأدركت أنه سحب كل ما أمتلك من رصيد ولاذ بالهرب. في تلك الأثناء كانت ظروف القتال تسير من سيئ إلى أسوأ. شعرت بأنني بلا سند وسط صوت الصواريخ وأخبار الخطف والاغتصاب. كنت أعيش صدمة وأتساءل: لماذا آثر أن يخون؟

هل هرب لكي يعذبني أم لأنه أجبن من أن يواجه مشكلة عدم قدرته على الإنجاب؟

بعدها اتصل بي وقال إنه يأسف؛ لأنه غير قادر على مواصلة الحياة معي. فطلبت منه أن يتمهل؛ حتى يرتاح نفسيا قبل اتخاذ أي قرار. ولكنه أصر بل وقال: إن ما أخذه من مال هو حق له وإن المحاكم بيننا. شعرت بأنني أتكلم مع عدو لا مع حبيب شاركني الحياة. شعرت بأنني أموت بيد من أحببت. لا أعلم ماذا أفعل. ولا يمكنني التمسك بأي شأن قانوني في ظل الظروف القائمة. لم أخبر أهلي؛ لأن إخبارهم في مثل هذا الوقت سيكون قاسيا، خاصة وأن الأسرة كلها فقدت منازلها وتجمعت في بيت واحد. ثم إنهم لا يعرفون من علاقتي بزوجي إلا الطيب.

الموت حولنا والمستقبل قاتم وأنا أشعر بأنني ريشة في مهب الريح. الضغط رهيب، وأخشى أن أفقد عملي بين ليلة وضحاها. أسألك ما هو السبيل؟

 

 

 

عزيزتي الحقيقة هي أنك تمرين بمحنة هي أقسى ما صادفني منذ زمن طويل. ولكني أعلم يقينا أن تجاوز المحن يصهر معدن الإنسان ويقويه. لقد عرضت عليّ المشكلة من وجهة نظرك، وتظل وجهة نظر زوجك غائبة. لا يمكن أن يكون هروبه خيانة خالصة، وإنما هي إحساس باليأس التام، أو عجز عن مواجهة أمر ما ظل غائبا عنك طوال حياتكما معا.

مالم أفهمه هو لماذا اعتبر المال حقا له، وكأنك لست شريكة بالنصف على الأقل، حيثُ إن كليكما يعمل. ولا يعقل أن تتغلب عليه الأطماع إلى هذا الحد، وهو يعلم أنك وحدك وسط ظروف شديدة القسوة.

إن كان مصرا على فراقك فسوف يفارقك، خاصة وأن ظروف الحياة في وطنكما أصبحت في حالة اضطراب كامل. ولكني أنصحك رغم قسوة النصيحة بأن تطلعي أهلك على ما يجري في حياتك. أهلك هم سندك مهما كانت الظروف، وسوف يتفهمون ما حدث بلا حاجة إلى تفسير؛ لأن الظروف تدفع بالناس إلى حافة الجنون، وقد يفسرون سلوك زوجك بأنه جنون طارئ بلا احتياج لتفسير آخر. وربما قدروا موقفك، ووجدت بينهم أخا أو أختا يمكن أن تلحق بك حيثُ تقيمين مادام العمل مستمرا؛ حتى لا يضاف إلى أعبائهم عبء جديد.

المهم في الأزمات أن يتمسك الإنسان بإيمانه، وأن يحتفظ باليقين بأن الله يرى ويغيث ويحمينا من كل الشرور. ادعو الله أن يخرجك من دائرة اليأس وأن يعوضك خيرا عما فات.

 

ردود

تسنيم أ-

 

لبس كل ما يلمع ذهبا. اعتراضي على هذا الارتباط لا علاقة له بفارق العمر بينكما. ولكن ما بدر منه نحو المرأة التي شاركته السنوات العشر الماضية لا يبشر بخير.

 

عبد المطلب م-

لا تحمل على صاحبك. فتش عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نشوء المشكلة. النفوس الضعيفة لا تحترم وعدا ولا تحفظ عهدا.