أغوار العينين - 1 –


اعلم يا أخي أنني أطوف بك، وأصف لك، ويمكنني أن أمضي فأذكر لك أدق الموجودات في تلك الحجرة التي ضمتني وإياها، لا ألقى حرجًا في أن أقول لك:

إنني أؤجل الدنو منها بنظري، والانطلاق منها بطلائع حواسي، فلو سددت البصر لرسوت، وما أقلعت، أو يمكنني القول بأنها نهاية المطاف، فلو بدأت بالحديث عنها، والوصف، فصعب عليّ ذكر ما عداها، هي المركز وما عداها في هذه الغرفة توابع في أفلاكها غير أن ملامحي يا أخي كما تعرفني، لم تعكس أمرًا مما يدور عندي، وأنت تعرفني بعد طول عشرة، وعميق صحبة، فلقسوة ما مر بي، ومُرّ ما عانيت صار عندي مسافة بين الظاهر والباطن، غير أني مهما حومت أو أجلت، أو تباطأت، فقد كان حتمًا رسوي عندما، اعلم يا أخي، أنها لما تربعت فوق هذا السرير الضيق، صارت في هذه الوضعية وآلت إليها الصدارة، ودار حولها الزمان والمكان، وبؤرة الوقت الذي نمضيه هنا، صعب عليّ يا أخي أن أفرد أمامك تفاصيل الحديث؛ لكن يمكنني أن أذكر لك الأمر في جملته، هكذا الحال وأنت سيد العارفين، فاللحظات الحميمية نستعيد ما قيل فيها إثر انقضائها، حتى إذا بعدت بيننا وبينها الشقة نذكرها في جملتها وليس في تفصيلها، وعند توالي المدة إثر المدة لا يتبقى إلا المعنى، إلا الرحيق، حتى إذا كر الزمان، ودب النسيان لا يصحبنا منها إلا الأشذاء، شذا هين من لحظات كان الواحد منا يمكنه خلالها أن يشهق شهقة فيتلاشى، تعرف يا أخي عني أنني لا أعيش لحظة في آنيتها، إنما أراها دائمًا من مسافات نائية، في ذروة الاندماج أرى الانفصال، وفي تحديقي إلى أغوار عينين جميلتين أرى يومًا أنه لن يتبقى منهما إلا محجراهما، ويومًا بعيدًا لن يكون شيء قط، أرى العدم في ذروة الوجود، لا يفلت من ذلك ذرى الحس، لهذا أطلت النظر إليها، أجاهد في النفاذ إلى ملامحها حتى أستعيدها عند نأيي عنها، فالنأي واقع لا محالة، كنت لا أحاول استيعاب ملامحها الحسية المتدفقة، ولكن حضورها، كنت أرى نفسي وحيدًا بعد انصرافي، في غرفتي القريبة، كيف سأستعيدها؟ كنت أرى نفسي في موطني القصي، عندما تباعد القارات ما بيننا، كيف سأذكر هذه اللحظات إذا ما ضعف حضورها في ذهني يومًا، كنت أتساءل: أين كانت هي في مثل هذه اللحظة العام الماضي، وأين كنت أنا؟ بل أين كنت لحظة مولدها عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين؟ في يوم ميلادها كنت أمر بعامي الثامن عشر، وكانت هي فردًا في القافلة التي أقلعت من العدم إلى الوجود ذلك اليوم، وعندما أصبح عضوًا في القافلة التي ستقلع يومًا من الوجود إلى العدم، أين ستكون عندئذٍ، وبأي أرض وأي محلة، هل ستكون ساعية؟ وإذا كانت فهل سأطوف بخلدها، كنت يا أخي في مواجهتها، منجذبًا إلى مدارها، تابعًا لها، وفي نفس الوقت أنأى الخلق عنها، فأنا مفقود بين لحظتين، ألم يقل إخوان لنا من قبل: إن الزمن ينقسم إلى سنوات، سنة مضت وسنة لم تأت بعد، وأن السنة تنقسم إلى شهور، شهر مضى وشهر لم يأتِ بعض، وأن الشهر ينقسم إلى أيام، يوم مضى ويوم لم يأت بعد، وأن الأيام تنقسم إلى ساعات، ساعة مضت وساعة لم تأت بعد، والدقائق منها ما مضى، وما لم يأت بعد، والدقيقة تنقسم إلى ثوان، ثانية انقضت وثانية لم تأت بعد، إذن فأين الزمان، إنما أنا يا أخي –أيدك الخالق- في هذا الذي لم يأت بعد، فهل أنا موجود أو في عدم؟ وإذا كنت منتميًا إلى ما لم يأت بعد، فهي في ذلك الذي انقضى، والآتي، وإن كانت في لحظة ما لن تكون عندي، والله يا أخي الأمر حيرة، فماذا أنا فاعل؟