الاتساق كلمة لها معانٍ جميلة ومريحة للنفس والوجدان، وهي صفة تلتصق بالأفراد والمجتمعات على السواء، وعكس الاتساق التناقض، أن يكون إنسان ما متناقضًا مع نفسه، أو أن يتناقض المجتمع مع قيمه فهذا أمر سلبي يُباعد المسافة بينك وبين الشعور بالرضا.
وعلى الرغم من أنني كثيرًا ما أُتهم من أصحاب أقلام بالتناقض، إلا أنني أشعر داخل نفسي باتساق تام ودائم بين ما أؤمن به، وما أفعله، في الماضي وفي الحاضر، وأرى حين أنظر إلى المجتمع الذي نعيش فيه مظاهر رهيبة للتناقض.
وفي كل عام حين يفِد شهر رمضان الكريم يتعاظم شعوري باتساقي الداخلي وشعوري بالتناقض في نظرتي للمجتمع.
إنه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينّات من الهدى والفرقان، إنه شهر نتصالح فيه مع الله سبحانه وتعالى، وتنفتح القلوب لتخلو من كل ما شابها طوال العام، وتمتلئ بروحانيات وإيمانيات تخفق لها وتعلو بها إلى درجات سامية من السلام والرضا.
إنها معانٍ يؤكدها الكثير من المظاهر التي لا تفوت على أي عين ترى، فها هي الشوارع التي تزدحم في كل ساعة من ساعات العام لا تخلو إلا في ساعة واحدة فقط، وهي الساعة التي تتلو غروب شمس كل يوم من أيام شهر رمضان، مُنْبِئةً عن حقيقة رائعة الجمال، فالجميع يتحلق في وقت واحد حول مائدة الطعام في مشهد فريد يترابط فيه المجتمع، ويشعر الجميع بأنهم أعضاء في جسد واحد.
وفي عالم الرجال يتأكد المعنى حين يغْشُون مساجد تكاد تخلو من الإعمار إلا في أيام الشهر المبارك، وخاصة في صلاة الفجر، ونلتحق بهم نحن معاشر النساء كلما سنحت لنا فرصة، خاصة في صلوات العشاء والقيام.
وإذا حلَّت العشر الأواخر من رمضان تنطلق الطائرات من كل أنحاء الدنيا صوب الأراضي المقدسة؛ لتحمل أعدادًا من المسلمين تعتكف في المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، وترى الحجاب وقد غطى رؤوسًا لم تكن كذلك قبله، وتضيء في وجوه الجميلات أنوار الإيمان، وتفيض من عيونهن دموع ودموع؛ خشية لله وتأثرًا بآيات القرآن الكريم.
كل هذا رائع وجميل ومتسق، ولكن التناقض يأتي مع ما نراه على شاشات كل القنوات التليفزيونية، التي ترصد كل إمكانياتها المادية والفنية والإبداعية؛ لتعقد في شهر رمضان مهرجانًا سنويًّا، يتبارى فيه الجميع ليعتلي قمم الدراما والكوميديا والترفيه، في ظاهرة فريدة لا يميزها إلا أننا لم ننقلها عن غيرنا من الأمم شرقًا أو غربًا.
وأمام المبالغ الطائلة التي تُنفق، والمجهودات الكبيرة التي تُبذل، والإبداعات الرائعة التي تتألق، تتساقط محاولات ملايين في اغتنام الشهر فرصة للتوبة والعودة إلى الله، وتضيع لحظات كان الأولى بها أن تُوجه إلى الذكر وإلى الدعاء والاستغفار، فتضيع بدلاً من ذلك في اللهاث لمتابعة تسابق المسلسلات والأعمال التليفزيونية على القنوات التي لا تهدأ ليلاً أو نهارًا.
تناقض في المجتمع، قد يتهمني الكثير بالضلوع فيه، وقد أُتهم بالتناقض الآن، وأنا أنقد ظاهرة قد يبدو أني مشاركة فيها، لكن هذا له حديث آخر.
وكل عام وأنتم طيبون.