لو كان للذكرى شفاه تتكلم لانفرجت وتجمرت بلفظ الحسرة، آه! ولتلك المرابع لو نطقت لانبجس منها الخطو القديم كعين ماء هامسة كنت هنا، وتنهدت: إيه، رأيته يعبر من هنا، أعني قبل خمس دقائق من الساعة الرابعة بعد الزوال ليوم الجمعة، المؤرخ بالخامس ديسمبر، من سنة 1980م. الطقس بارد، وخطوتي تدق بلاط ساحة الجامعة، وأنا أعبر إلى السوربون العتيقة. كنت متهيباً في هذه العصرية، لا بسبب المكان الذي بدأت أتعود على رحابه، وإنما للمجلس العلمي الذي سينعقد بعد قليل، والأسماء الأكاديمية المعتمدة فيه من العيار الثقيل، في قلبها ألجيرداس جوليان غريماس، عالم السيميائيات، يخيف في حلقته الدراسية بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، يفكك النصوص ويرمزها كالمعادلات الرياضية، وهو من هو في محفل المناهج الإنسانية الحديثة. كان بعض شبابنا إما ينخلون بقايا منهج البنيوية التكوينية للوسيان غولدمان، أو يتلعثمون بعد ببعض مصطلحات رولان بارت. صعدت الطابق الأول ماراً بمدرج لوي ليار الشهير، حيث سأدافع في عام لاحق عن أطروحتي، وحيث شهدت بعد ذلك الثوري مستشار متيران، ريجيس دوبري، في مضمار علمي وسياسي مثير يدافع عن أطروحته عن العلم الذي نحت له مصطلح الميديولوجيا.
دفعت باب القاعة الصغير في عمق الطابق الأول، وظهر لي أني وصلت متأخراً، إذ وجدتها غاصةً بطلاب باحثين من جنسيات مختلفة، أكثرهم عرب، حضروا لمناقشة أطروحة دكتوراه دولة أعدها طالب بعثة سوري عن شعر بدر شاكر السياب، وتحديداً، إن لم تخني الذاكرة، عن مفهوم الموضوعية البنيوية في متنه الشعري. طبعاً، كان الإخوة السوريون أغلبية الحضور، مجيئُهم لمؤازرة مواطنهم، وهو سيواجه لجنة من صناديد الأساتذة، أخطرهم مكانة علمية آنذاك غريماس. قدم الباحث عرضه التقليدي بثقة، ثم افتتحت المناقشة. وجدتني مشدوداً إلى المنصة أنتظر متى سيتدخل السيميائي المهيب. مرت ساعة وأنا مستند إلى الجدار وقوفاً، فقد شغل «الشعب السوري» جل المقاعد. كنت وقتها في عز شبابي لا أحس بالعياء إلا نادراً، فصمدت ساعة ثانية، يسندني صابرون آخرون. وكالبرق التمعت نظرتها. دخلنا في الليل والقاعة مضاءة، ولم يكن من مطر في الخارج، فهل سيدوي الرعد بعد هنيهة على هذا البرق، فيهطل المطر خيطاً من السماء، أم ليس غير برق خُلب؟ اخترقتني نظرتُها للمرة الثانية، فهي جالسة في الصف ما قبل الأخير جهة اليمين، لا تكف عن تشبيك أصابعها بغابة شعرها.
كانوا ستة أساتذة خلف المنصة العالية أمامنا، وجاء دور البروفيسور كوهين، أستاذ اللسانيات، وشرع «يشرح ويملح» في تطبيقات الطالب المترشح، وأنا أقول يا ويلي من هؤلاء يوم سأدخل المنازلة الكبرى، ولم أكن وحدي يتآكله هذا القلق، فغيري معني كذلك بغَدِ مناقشته، وهو هنا كمن يحضر لـ «بروفا». لكن، ما بال عينك منها الماء ينسكب؟! لا، هذا مجرد خدر، من رَجع ذكرى.
انشطرت قاعة المناقشة نصفين: واحدة لبنيوية الطالب عبدالكريم، والثانية لهذه البنيوية الجديدة التي لا اسم لها بعد، وهي على أهبة الانفراج بين الشفاه. أظن أن غريماس عندئذ في السبعين، بوجه مغضن وصلب التقاسيم، وبقامة احتفظت بمتانة الماضي، والكلمة الآن له، وكأن على الرؤوس الطير. وعلى عكس توقعنا فوجئنا أنه قال، أو لم يقل كثيراً، الأغلب أننا لم نفهم ما قال، إلا بعد لأي، وإذ تململ الحضور، وعلا الوجوهَ طيفُ ابتسامة مريرة، ويصح أن أقول ساخرة منه هو سخرية العالِم. قال غريماس وقد أسند كوعيه على المنصة، والكلام موجه إلى المترشح: قرأت أطروحتك، وحسب تجربتي المتواضعة في البحث العلمي، فإني اكتشفت أنا الذي كنت أظن أني أفهم في البنيوية، بنيويةً جديدة، ما رأيك لو سميناها «البنيوية الكريمية»؟! نسبة إلى الاسم الشخصي للمناقش، ثم انصرف يقف على بعض الهنات والتفاصيل الصغيرة، ليستمر صامتاً طيلة ما تبقى من وقت المناقشة، صمت أبي الهول.
بعد ساعة زمان انفض المجلس، وقد دافع أخونا العربي عن نفسه باستماتة، ونال استحقاقه العلمي وأجرَ من اجتهد، ولم أسمع بعد ذلك ولا عرفت ما جرى لبنيويته. فيما قادتني «بنيوية» عينيها منذ جلستنا، تلك، إلى «التهلكة». فقد خرجت ومشيت، لا أذكر أإلى جانبها أم أقتفي الخطوةَ بأختها، وصعدنا معاً أعلى شارع سان ميشال، ثم انعطفنا يسار زقاق «كلود برنار»، و«عدونا وسبقنا ظلنا» منحدرين كطفلين يتدحرجان، إلى أن انعطفنا إلى نهاية المنحدر، أخيراً يميناً إلى زقاق «بروكا».
للتفاعل مع الكاتب [email protected]