في بيتنا الطيني، في حي الشميسي، أحد أحياء مدينة الرياض القديمة، عشت جزءًا من طفولتي البريئة هناك، ومازلت أتذكر أنها كانت طفولة حافلة بالنشاط واللعب، وممارسة جوانب من العمل التجاري البسيط، وذلك كان في أثناء دراستي الابتدائية، حيثُ كان لديّ وقت طويل، يمتد من بعد صلاة الظهر وحتى ما يقارب منتصف الليل، بالإضافة إلى إجازة الأسبوع والعطلة الصيفية، فكان من ضمن تلك الأنشطة ممارسة لعبة البيع والشراء لإطارات السيارات المستعملة، وكانت عملية البيع والشراء تتم ليس بالأوراق المالية المعروفة، وإنما بأوراق بديلة، حيثُ كنا نستخدم مثلاً الورقة الملفوفة على علبة القشطة، لتكون بمثابة فئة المئة ريال، وكذلك الورقة الملفوفة على علبة المربى، بمثابة الخمسين ريالاً، وهكذا مع بقية فئات العملات، وكنا نعيش متعة حقيقية، تساعدنا على تنمية الحس والتعامل التجاري والمعاملات الحسابية، وبعدها مارست بيع عصير التوت، وكنت أرفع شعارًا صوتيًا يقول: «اشرب التوت قبل ما تموت»، وبعدها البيع في بسطة تحتوي على الأقلام و«الكبكات»، وغيرها، داخل أحد أسواق وسط مدينة الرياض القديمة، والمسمى «قيصرية ابن كليب» والمكتظ بالمتسوقين، وبعدها تحولت هواياتي إلى القراءة ومواصلة الدراسة.
مقدمة الذكريات هذه تدفعني إلى بيت القصيد هنا، وهو أنني كنت أمارس هواية اللعب والعمل التجاري البسيط، وخلفي إنسانة عظيمة.. قلقة على فلذات كبدها، وحريصة على مستقبلهم، مدركة لأبعاد خطواتهم وممارساتهم، ومثالية في التعامل معهم، وتسعى لخلق توازن بين الدراسة والهواية واللعب البريء، حريصة ألا تحرمهم فرصة ممارسة هواياتهم، وألا يطغى شيء على آخر، وألا يتحول أي عمل، أو ممارسة، أو لعب إلى جانب سلبي، كان جل وقتها وهمها مسخرًا لأجل تربية الأبناء، فكانت تسعد لسعادتهم، وتشقى لشقائهم، وتفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم، نعم تحملت شقاءنا، ومشاكلنا، وغربتنا، كانت كتابًا مفتوحًا، وصدرًا حنونًا، ونبع الحب الصافي، والإيثار الذي ليس له حدود، كانت نعم الصديقة الصدوقة لكافة أولادها، بل تجاوز ذلك إلى الآخرين من الأقارب، والأصحاب، والجيران، كانت نهرًا متدفقًا من العطاء، والمحبة، والصفاء، والأخوة، وكنا مع غيرنا نشرب من هذا النهر في كل يوم وليلة، ويزيدنا طاقة تسري في عروقنا، وتنمو في أجسادنا روح المحبة الصادقة، والأخلاق الفاضلة، وأكاد أجزم بأنه هذا حال كثير من الأمهات في كثير من الأوقات، إلا أنني أشعر، وغيري كثير، بأن أمي هي من نوع آخر، ومن طراز مثالي آخر، كان لا يهدأ لها بال، ولا تخرج مطلقًا إلى غرفة نومها مهما كانت الظروف، قبل عودة جميع أفراد العائلة إلى المنزل، كانت سعادتها وراحتها مرتبطة تمامًا بسعادة، وراحة الآخرين، وتشعر بلذة في ذلك لا تعادلها أي لذة على وجه الأرض، كانت تقاوم آلامها، ومتاعبها في سبيل سعادة الآخرين، كانت تضحي بما تملك من موارد مالية، وطاقات معنوية، وعاطفية من أجل سعادة أفراد أسرتها والآخرين، وكانت تحرص على صلة الرحم، والاستقامة، والتسامح، ومساعدة الفقراء والمساكين.
وصدق من قال في حب الأم:
يا أعذب الحب يا أندى رياحيني منك الإله برى نبضي
وتكويني
ومنك كل جميل عاشه حلمي ومنك روحي وأشجاني وترنيمي
أمي الحبيبة: رحمك الله رحمة واسعة على كل ما قدمت، ومهما عملنا، لن نوفيك حقك، أسكنك الله جنات النعيم في الفردوس الأعلى مع الأنبياء، والصديقين، والشهداء، حبنا لك حب أبدي، لم ولن ينقطع، لقد رحلت عنا، لكن غرسك، وأعمالك الجليلة لم ترحل، فأولادك، وأحفادك، وكل المحبين لك، يلهثون دومًا بالدعاء لك، وأن ينزل عليك الضياء والنور والفسحة والسرور، وأن يرحمك فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، اللهم ارحم أمهاتنا وأموات المسلمين أجمعين.