الدمية

بهو المحطة كبير، تمشّيت في الممر الرخامي المؤدي إلى صالة الانتظار المستديرة، السقف عال، والجدران مغطاة بقطع زليج مزينة بزخارف ومنمنمات جميلة جدا، تملكتني الرهبة، وخطوت بارتباك نحو شبابيك التذاكر المزروعة على طول نصف الصالة الدائري الأيمن، لم أفلح في العثور على شباك تذاكر مراكش، لم ألمح اللافتة التي تحمل اسم المدينة، لم أر شيئا في الواقع، قلبي كان يدق بشدة، وعيناي لا تركزان على شيء، خيل إليّ أن كل من في الصالة يعرف أنني طردت من بيتي وجئت أبحث عمن يوصلني إلى أهلي.

لم يكن أحد يكترث بي، ولكنني لم أستطع تصديق ذلك، عيون كل من أمر قربهم تتفحصني بازدراء، كنت واثقة من ذلك، بلغت أقصى شباك، وقفلت راجعة وأنا أنظر بالكاد إلى اللافتات الصغيرة المثبتة على الواجهات الزجاجية، الدار البيضاء، طنجة، أغادير، العيون، مراكش.

وقفت أنتظر دوري في الطابور وأنا أتعرق بغزارة، لم يكن الجو حارا، لكن إحساسي المتنامي بغرابة مظهري، والشبهة التي تلف حركاتي جعلاني أزداد ثقة بأن كل المحيطين بي يخمنون ما يخفيه ارتباكي الواضح: ذنب لا أريد أن أقر به، أو زلة أخجل من الاعتراف بها.

كنت أرتدي جلبابا واسعا فوق ثوب داخلي فاقع، يظهر ذيله وأكمامه تحت الجلباب الذي لم ينظف منذ مدة، غطاء رأسي كان قصيرا، وحذائي المنزلي المتآكل عند الكعب يوحي بأنني التقطته من مزبلة، لم يسمح لي حسام بتغيير ثيابي، رماها في وجهي ودفعني خارجا.

 شعرت بالدموع تملأ عيني، وتماسكت بصعوبة.

 لن أفرج الناس على مصيبتي.

طلبت تذكرة ودسست الورقة في محفظة اليد الصغيرة التي سمح لي بأخذها، أحرص دائما على وضع بعض المال فيها، خناقاتنا تنتهي دائما بطردي من الشقة، وأحتاج في كل مرة إلى ما يكفل لي التحرك براحة في المدينة، بانتظار انقشاع الأزمة، حسام ليس حقودا، ينتهي به الأمر دائما إلى البحث عني، والاعتذار لي، وإعادتي إلى البيت معززة ومكرمة.

أشار موظف الشباك إلى المقاعد الوثيرة المصفوفة في النصف الثاني من الصالة، إنها أول مرة أستقل فيها القطار، حسام يكره وسائل النقل العمومية، ويصر على استعمال السيارة.

 جلست قريبا من أسرة بدت لي محترمة، ونظرت إلى الساعة الحائطية العملاقة، ما زال الوقت مبكرا، تخيلته يتابع مباراة الكرة التي أفسدت فرجته عليها، لا يفكر فيّ على الإطلاق، لن يشعر بالقلق، يعرف أنه سيجدني كالعادة عند جاراتي أو في منزل إحدى زوجات أصدقائه، سيتصل بي، وسيهرع إليّ وفي عينيه شوق وندم، وسيسترضيني ويخفف عني، ويقسم لي بأنه لا يقدر على الاستغناء عني، سيمطرني بكلامه المعسول، ويطبطب على جرحي، ويعيدني إلى البيت، ونخرج في الليل للعشاء في مكان جميل.

وسينسى كل ما جرى، وسأنسى أنا أيضا،

 ولن تطول الهدنة كثيرا قبل أن تتكرر الخناقة،

تنهدت، وتركت قلبي يفيض حزنا.

لا يمكنني أن أواصل العيش هكذا.

لم يكن من السهل عليّ تنفيذ ما فكرت فيه مئات المرات وعجزت عن تحويله إلى واقع، لا يمكنني أن أرضى لنفسي بكل هذا الإذلال، لست دمية قش يرميها خارجا كلما ضاق ذرعا بها ويعيدها إلى مكانها على الرف كلما حلا له، شجاراتنا عادية، هي خلافات تحدث في كل بيت، لكن ردود أفعاله مبالغ فيها، وشتائمه وسبابه واستسهاله طردي من بيتي -وكأنني لا أملك أي حق فيه- أمر يخيفني، لا أدري ماذا سيفعل بعد ذلك، قد يطيب له يوما ضربي أو الاعتداء علي أو رميي بيمين الطلاق في لحظة حنق، يجب أن يعرف بأنه لا يستطيع فعل كل ما يعنّ له دون اكتراث بكرامتي وحقوقي.

شعرت بأزيز هاتفي، وغالبت رغبة عارمة في إخراجه من المحفظة، خمنت أن مباراته انتهت، وهواجسه بدأت، يريد الآن أن يعرف أين أنا، ليأتي ويسترضيني كعادته، ويلم الموضوع بضحكة وكلمتين.

تطلعت حولي، وارتجفت يداي وهما تضغطان بشدة على المحفظة الصغيرة، لن أفتحها، استمر الأزيز، وقمت دون أن أشعر، وتقدّمت نحو أقرب نافذة، وبحركة خاطفة فتحت المحفظة وأخرجت المحمول ورميته أبعد ما استطعت، وعدت إلى مقعدي وأنا أرتجف.