الرواية الخالدة

وأعني بها رواية الكاتبة الأميركية مرغريت ميتشيل «ذهب مع الريح». وقد انتشرتْ مع رياح الجهات الأربع، خصوصاً بعدما تحوّلت إلى فيلم سينمائي، جسّد شخصياته أشهر نجوم هوليود في زمانهم، أمثال: فيفيان لي، وكلارك غايبل.

<<< 

لكن كلامي الآن على الرواية، وعبقرية المؤلّفة، وقد تمكّنتْ من منافسة أعظم الكتّاب، لتصبح روايتها التي صدرت في العام 1936 أقرب إلى الأسطورة؛ وقد بيع منها ملايين النسخ، كما تُرجمت إلى عدد كبير من اللغات.

<<< 

ما ذكّرني بهذه الكاتبة، وروايتها، هو اندلاع الثورات والحروب في بعض البلدان العربية وسواها.

لكن الرواية تحكي قصّة الحرب الأهلية، وقد دارت في أميركا بين الشمال والجنوب في منتصف القرن التاسع عشر.

<<< 

والكاتبة المولودة في العام 1900 لم تشهد تلك الحرب، إنما سجّلتْ وقائع روايتها من خلال الأبحاث وقراءة التاريخ.

وهي بعدما عملت لفترة قصيرة في الصحافة، انصرفت إلى الكتابة الروائية. وكانت تسمع أخبار الحرب منذ الطفولة؛ وظلّ الناس يتداولونها حتى بعد حلول السلام.

وبقي ذكر الحرب ملازماً للصبيّة حين كانت تلتقي رجالاً شاركوا في خوض المعارك، فتصغي إلى حكاياتهم ومغامراتهم بكل الشغف والاهتمام. وتُسجّل ما تسمعه في دفتر خاص.

<<< 

مهمّ جداً ذكر الأسلوب الذي اعتمدتْه الكاتبة في تأليف روايتها الوحيدة؛ وقد باشرت كتابتها في العام 1926. وانتهت بعد عشر سنوات.

<<< 

ويقدّم زوجها شهادة هامة في الأسلوب الذي نهجتْه مرغريت إذ يقول: إنها لم تكن تتبع نظاماً معيَّناً؛ بل كانت تكتب الفصل الأخير أوّلاً، ثم تعود فتبدأ فصلاً من الوسط أو البدء...

<<< 

لكن من أين جمعتْ معلوماتها عن الحرب؟...

وتردّ هي بأسلوبها المُبَسَّط فتقول: كبرتُ في زمن كان الأولاد يجلسون في مجالس الكبار ويُصغون؛ وذلك يعني أني سمعت قصصاً وحكايات عن الحرب الأهلية، حين كنت أرافق أهلي لزيارة عائلات عاشت الحرب واكتوتْ بنارها.

<<< 

ومن تلك الأحاديث جمعتْ معلومات عن القتال، والتضحية، والإصابات ومعالجتها، خصوصاً وأنها كانت تتمّ بواسطة الطرق البدائية المتبّعة في حينه.

كذلك دوّنتْ أدقَّ التفاصيل عن التموين والحصار. وكتبتْ عن نساء تطوّعن لمُسَاعدة الجرحى.

<<< 

ومرغريت ميتشيل المولودة في مدينة أتلانتا وصلت إلى الدراسة الجامعية التي مكّنتها من استخراج روايتها هذه، من وثائق وحكايات سمعتها؛ إذ كان قد انقضى بضعة عقود على انتهاء تلك الحرب.

<<< 

أمّا موهبة الكتابة، فقد طوّرتها من خلال عملها في الصحافة. وهي لم تتخصّص في موضوع بالذات؛ بل طرقت كل المواضيع، ممّا فتح لها المجال كي تطّلع على معلومات منوّعة، وتحصّل خبرة غنية.

<<< 

وبعدما تخلّت عن العمل الصحفي انصرفت إلى المطالعة الهادفة؛ إذ كان اهتمامها مركَّزاً على موضوع واحد: الحرب الأهلية.

وكانت تكتب كلَّ فصلٍ على حدة، ثم تعيد الكتابة بمعدّل عشرين مرّة حتى ينال الرضى التام. والطريف أنها كانت تنتهي من كتابة كل فصل، وتضعه جانباً ضمن غلاف خاص، ريثما تكمل سواه. غير أن الأسلوب الذي اتبعته لم يؤثَّر على ترابط الأفكار، وانسجام العمل، إذ تمكّنت من نسج الرواية بمقدرة خارفة.

<<< 

أهمية هذه الرواية أنها تخلِّد الجنوب في وطنها، لا في خلال الحرب وحسب، بل وفي السلم أيضاً. وقد انعشتها عبر رموز وشخصيات نابضة بالحياة؛ لأنها ترى أنه: «في الكوارث والزلازل والحروب الكاسحة، الأقوياء وحدهم يستمرّون في الحياة. انما المؤسف أن الأفكار الشرسة تستمرّ معهم». وهي بذلك تتحدث عن شراسة القوّة ومنذ فجر التاريخ.

<<< 

لكن الوحي الذي يبقى مع قارئ هذه الرواية، أينما كان، وإلى أي بلد ينتمي، فيلخّص بالتالي: إذا تمكّن الجنوب الأميركي أن ينهض، فإن كل بلد تصيبه الحرب يمكنه النهوض والتغلّب على الهزيمة.

<<< 

والغريب أن مرغريت ميتشيل اكتفت بكتابة رواية واحدة، ثم كرّست بقية حياتها للعمل في المؤسسات الخيرية والإجتماعية. الاّ أن ذلك لم يَطُلْ، فبينما كانت تجتاز الشارع لحضور عرض خاص لفيلم «ذهب مع الريح» المستوحى من روايتها، تلقّتْ ضربة قاتلة من سيارة عابرة أودتْ بحياتها.

وكانت وفاتها في العام 1949 صدمةً كبرى لكل من قرأ روايتها