يفترض أن يكونَ مطرباً، ذاك الذي يعتلي ظهر حصان، ومدجّجاً بالسلاحِ يُغنّي.
ويَخُرُّ من حوله ضحاياه: هم مُشاةٌ، وهو الفارس. والأغنيةُ تعبير عن الشجاعة والإقدام.
<<<
يردُّني هذا المشهد إلى ما يحدثُ في عالمنا المعاصر.
وكيف تُستَغل التقنياتُ الحديثة، خصوصاً الفيديو والشاشة، وغيرهما من وسائلِ الظهور والحضور. وكلُّها تعملُ على رفعِ وتيرةِ العنف والعدوان؛ وكأنّما لا يكفينا الواقع، القريب منه والبعيد.
<<<
وتدأبُ وسائلُ الإعلام على بثِّ أخبار العنف، وفي الطليعة يتقدّم العنوانُ الإنذار: خبرٌ عاجل. وتهلعُ النفوس، لمعرفةِ مصدرِ ذلك الخبر، وأين حصلَ الانفجار، وكم هو عددُ الضحايا؛ وهم، في معظم الأحيان، أناسٌ أبرياء.
<<<
وتتبارى محطّاتُ الإعلام في نقلِ الخبر السريع؛ حتى إذا شاءَ المشاهدُ أن يهربَ من الحروبِ وما تخلِّفهُ من رعب، وفكّر باللجوء إلى شاشةٍ تنقل إليه مسرحية، أو فيلما ترفيهياً يُنْسيه متاعبَ يومه، أطلّتْ عليه وجوهُ الممثّلين وهي تتلبّس شراسةً أشدّ وأقوى من الواقع، فتؤكّد له انتماءَهُ إلى عصرِ العنفِ والصدام، وعليه أن يشاركَ ويعيشَ واقعَ الحال.
<<<
وقد لاحظتُ في الآونة الأخيرة، ازديادَ نزعةِ العنف في الأفلام والمسلسلات، وفي كلّ اللغات. ولجأتُ إلى أحد كبارِ المخرجين أسألُهُ عن الدافع إلى ركوبِ مركب الإثارةِ العنيفة، فكان جوابُهُ حاسماً: هذا ما يطلبُهُ الجمهور.
والسلامُ على مثاليات الزمانِ الأول؛ وعندما كنّا نُصدِّقُ بأن الفنّ وسيلةٌ لتهذيب العقلِ والروح.
<<<
صحيحٌ أن للفنِ غايةً أولى هي الترفيه، وتغريب المرء عن الواقع، ونقله إلى عوالم الخيال؛ لكنه في ذلك كله يبقى حاملاً رسالةً نبيلة، هي الارتقاءُ بالإنسان باتجاهِ مراتبِ السموِّ الفكري والروحي.
<<<
والأخطرُ في هذا المجال، هو العنفُ المبكر الذي تنقلُهُ وسائلُ الترفيه الموَجَّهة إلى الأطفال، من السينما، إلى التلفزيون، وحتى بعض الألعاب والدمى. وتكون الحربُ مادتَها، والموضوعَ الأساسي. ونظنُّها وسائل ترفيه، فيما هي تغرسُ في تلك النفوس الطريّة، عاداتٍ وغرائزَ تظلُّ كامنة، وتؤثرُ في السلوكِ مدى الحياة.
<<<
من بعضِ ما يُطرحُ في الأسواق، ألعابٌ تمثِّلُ السلاحَ وأدواتِ العنف والحروب. وهي تبدو لعقل الطفل جذّابةً، بل ومثيرة. ويشتريها الأهلُ من دون أن يُقدِّروا مدى تأثيرها في سلوك أولادهم، كما في حياتهم حاضراً ومستقبلاً.
<<<
وإني أتمنّى على المربين وأولياء الأطفال الساهرين على نشأتهم وتربيتهم، أن يُولوا هذا الأمرَ جُلَّ اهتمامهم، إنْ من خلالِ الإعلام أو التوعية المباشرة على حجمِ الضرر الذي ينجمُ عن ألعابٍ تُمثِّل المدفعَ والبندقية، إلى الأشخاص الذين يُقدّمون مظاهرَ البطشِ والاقتتال.
<<<
ولا تشذُّ وسائلُ الترفيه العربية عن قاعدةِ العنفِ في ما تقدّمه الأفلام والمسلسلات، من الشراسة والعدوان.
إني مع حرّيةِ السلوكِ والتعبير، إنما للذوقِ حرمتُه؛ ومراعاتُهُ دليلُ حضارة ورقيّ. كما أن الإبداعَ مسؤولٌ تجاه الإنسانية والرأي العام. والفنانُ الذي يقفُ وراء تلك الأعمال، يُفترضُ فيه التحلّي بقسطٍ من الذوقِ والحسِّ الإنساني، كما الموهبة الفنية الإبداعية، والطموح إلى الانتشار والشهرة.
<<<
ليس لديّ أيّ طموح لأصبحَ واعظةً أو مبشِّرة، خصوصاً وأنّ انتشارَ المعلوماتِ والصور يتخطّى الحدودَ المعروفة.
لكن الحرّية من دون مسؤولية تتحوّلُ إلى فوضى، وعند ذاك يضيعُ النظام. وهذا ليس من مظاهرِ التقدّمِ والرقيّ.