الفهرست

تقريبا احتضرت المدرسة العريقة للمحققين المصريين، لم يعد هناك ما يمكن اعتباره تيارا متكاملا لتحقيق التراث، ثمة بقايا تتمثل في أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، بل أكاد أقول إنه شخص واحد الذي ما زال يحتفظ بتقاليد الأسلاف العظام في الدقة والمنهج، والتصدي للأعمال الكبرى، أعني بالتحديد الدكتور أيمن فؤاد سيد الذي انتهى العام الماضي من تحقيق «خطط المقريزي»، التي صدرت في ستة مجلدات ضخمة لأول مرة عن دار الفرقان التي أسسها الشيخ أحمد زكي يماني في لندن، وتقوم بمجهود كبير في حفظ التراث العربي المتناثر في بلدان عديدة من العالم عن طريق الفهرسة، وأيضا تحقيق الأمهات تحقيقا علميا، أخيرا أنجز الدكتور أيمن تحقيق كتاب «الفهرست» لابن النديم، ويعد هذا أول نشر علمي مدقق لهذا الكتاب الهام الذي له الريادة والتأسيس في رصد وصون الإنتاج الفكري العربي الإسلامي وإسهامات العلماء العرب والمسلمين في الحضارة الإنسانية حتى نهاية القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وهذا القرن يمثل ذروة الحضارة العربية ونتاج انفتاحها على الثقافات الأخرى وتفاعلها، خاصة بعد حركة الترجمة الواسعة التي تمت في العصر العباسي، الاسم الدقيق للكتاب هو «الفهرست في أخبار العلماء المصنفين من القدماء والمحدثين وأسماء ما صنفوه من الكتب» لأبي الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحق النديم الوراق المتوفى في 20 من شعبان سنة 380هـ/ 18 نوفمبر سنة 990 ميلادية، ليس هناك كتاب مماثل له، إنه يرصد حركة التأليف في فروعها المختلفة خلال القرون الأربعة الأولى للإسلام، يقدم رؤية شاملة للثقافة العربية حتى عصره، لا يكتفي بإيراد العناوين، إنما يشرح ما تضمنت، لقد رتب محمد بن إسحق النديم كتابه في عشر مقالات، في الست الأولى تناول لغات الأمم المختلفة وشرائعها ثم القرآن الكريم واختلاف المصاحف وأخبار القراء، أما المقالة الثانية فللنحويين، والثالثة للإخباريين والنسابين، وكتّاب السير، والرابعة للشعر والشعراء، والخامسة للكلام والمتكلمين، والسادسة للفقهاء والمحدثين، أما المقالة الأخيرة فيتناول فيها موضوعات علمية، حيث خصص المقالة السابعة للفلسفة والعلوم والرياضيات والطب، والثامنة للأسمار والخرافات، وفيها يرد أول ذكر في المراجع العربية لكتاب «ألف ليلة وليلة»، أما التاسعة فخصصها للمذاهب والمعتقدات، والعاشرة للكيميائيين.

إن كلمة مقالة هنا فيها لبس كبير، فالمقالة بمفهوم عصرنا تختلف عن عصر النديم حيث المقالة قسم كبير من الكتاب، يختص بموضوع واحد، كان النديم وراقا ينسخ الكتب، ويبدو أنه استفاد من مهنته شأنه مثل التوحيدي، ومن خلالها تكون وحصل ثقافة واسعة، في المقالة السابعة قدم عرضا وافيا لانتقال الثقافة اليونانية إلى العرب والمسلمين، وما نتج عن ذلك، وفي التاسعة يقدم إلينا شرحا لأفكار أصحاب العقائد المغايرة من صابئة ومانوية ومزدكية وخرّمية وزنادقة، كذلك مذاهب أهل الهند والصين؛ اعتمادا على مصادر نادرة لم تصل إلينا، أما المعلومات التي يوردها في المقالة الخامسة عن المعتزلة وعن الحلاج والإسماعيلية فذات شأن خطير كما يقول الدكتور أيمن فؤاد.

صدور الكتاب الذي يقع في أربعة مجلدات ضخمة يثير الإعجاب، ومن هنا التحية واجبة لدار الفرقان، وللدكتور أيمن فؤاد سيد، وفي نفس الوقت يثير المحقق المدقق بهذه الصورة القلق لاندثار المحققين العظام الكبار ليس من مصر فقط التي عرفت أحد الأسباب العجيبة لتراجع التحقيق فيها، وهو عدم اعتراف الجامعات المصرية بالجهد العلمي المبذول في التحقيق كوسيلة للترقي، وبالتالي أحجم الباحثون عن بذل جهدهم في تحقيق النصوص، إنني أقترح على الصديقين: الدكتور عماد أبو غازي أمين المجلس الأعلى للثقافة، والدكتور صابر عرب رئيس دار الكتاب عقد ندوة بحثية لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة، وهي اندثار المحققين الذين كانوا يخرجون لنا كنوز التراث مدققة، إن وجود عالم جليل أو اثنين أو ثلاثة فقط لا يفي بالغرض، حتى لو كان كل منهم في قدرة وجد ودقة الدكتور أيمن فؤاد سيد، جزاه الله خيرا.