القناديل ـ 1 ـ


بعد أن تذهب لتنام، تشعل الشمس بنور وجهها –المطل من نافذتها- قنديل القمر، تشعله وتطفئ نفسها تمامًا؛ لتستمتع بنوم عميق.

وبعد أن ترتاح اليد الكبيرة المتشققة من عزقها بالفأس، تمتد إلى القنديل البدائي (لمبة الجاز) تشعله، وتعلقه في مسماره على الحائط المبني من الطين، تلتم الأسرة حول الجبن القريش والبصل الأخضر وخبز الذرة الناشف، وتمتد الأيدي خشنة كلها، حنونًا كلها على أمها وزوجتها الأرض، الولود التي تسوق الدلال حتى تعزقها اليد بخشونة، وتلقي البذور بحنان في أحضانها التي انفتحت، ثم تغلق سر الأرض على سر البذرة، حتى يخرج الطفل المرتعش الأخضر، ثم يشب على ساقه ويصير سنبلة أو كوز ذرة أو زهرة قطن أو عود قصب.

وفي زجاجة سوَّدها الدُخان، يتراقص الضوء شاحبًا مجاهدًا للخروج وإنارة الأيدي الممتدة إلى طعامها الفقير.

ثم يخرج الأب الفلاح ليتسامر مع أصدقائه تحت القمر قبل أن ينام، يشربون الشاي الأسود في أكواب صغيرة يملأونها المرة تلو المرة، لتدور ثماني أو عشر مرات، والإبريق المعدني الصغير المنبعج على الراكية –نار صغيرة من حطب الذرة- يغلي ويغلي ويُسقى بالماء والشاي الجاف دون انقطاع.

تلك سهرة عزيزة، لا تتاح  إلا كل حين، فالفلاح ينام مع الشمس ويصحو معها، أعني الفلاح القديم، قبل أن تدخل الكهرباء القرى، لتتبع دورة الزمان عند الفلاح قرص الدش بدلاً من قرص الشمس.

قرص الغروب قنديل برتقالي، وشمس الشروق قنديل أرجواني، والقمر مصباح فضي، والنجوم مصابيح غامقة في شبابيك بعيدة، وحبة البرتقال قنديل من صنع يد طفلية.

كنا في شتاءات الطفولة نستل القلب الممتلئ بالعصير اللذيذ، محافظين على سلامة القشرة، ثم نأخذ أحد الألياف التي تربط الثمرة بالقشرة ونشعلها داخل قنديل القشرة، فيشع وهجًا برتقاليًّا مبهجًا.

والمصباح الذي يتدلَّى من السقف قنديل كهربي متجرد من الشعر، يشبه حوائط الأسمنت، والبيوت النمطية ذات السقوف الواطئة والشرفات المتكررة المتشابهة، والمغالون في التشاؤم يشبهون ذلك القنديل المتدلي من سلك الكهرباء الطويل، بالمشنوق المتأرجح في حبل المشنقة،

 

أما قنديل اللص فهو يعمل بالبطارية: أسطوانة حديدية في آخرها مصباح إشعاعه أبيض سري، لا ينير إلا مساحة لا تزيد على متر مربع، تكفي لرؤية الهدف دون أن يجعل القنديل من حامله هدفًا لعيون الشرطة الساهرة، أو لأصحاب البيت الذي يزوره ضيفًا ليليًّا دون أن يدعوه أحد.

إنه قنديل خبيث كصاحبه، يفضح مطلوبه ويهتكه دون أن يفضح نفسه، يكشف عقد الألماس ودرج النقود وملء القبضة ذات القفاز من الأساور الذهبية، وإن لم يفضحه قنديل الليل وهو يدخل أو يخرج، قنديل القمر الشاحب، الخادع الشحوب، فقل على البيت وأصحابه السلام،

ذلك أن شحوب القمر خدّاع، يغريك بالتسلل في الظلمة إن كنت حديث العهد بالحب أو اللصوصية، فإذا به يرسم هالة من الضوء حول الحبيبين الغافلين، واللص المتلصص.