قبل ألف سنة، يَقول حَكيم العربيّة «أبوالطيّب المُتنبِّي»: «وبضدّها تَتبيّن الأشياءُ»، والنَّاس لا تَعرف النَّهار إلَّا حين يَأتي الليل، ولا تُدرك السَّعادة إلَّا إذا دَاهمها الحُزن، وقُل في نَفس السّياق «الصحَّة والمَرض»، و «الجَفاف والارتوَاء».. إلخ!
ومِن خلال إقامتي الطَّويلة في بريدة «السّعودية»، وسُكناي في مَدينة «برمنجهام» «بريطانيا»، أدركتُ أنَّه مِن الجَميل؛ أن أعقد مُقارنة بين «العَجائز» في بريدة، و»العَجائز» في برمنجهام، لأنَّ الأمور لا تَتَّضح إلَّا بالمُقارنة والموازنة، وقدوتي في ذلك القُرآن الكَريم، لأنَّه يُقرن الليل بالنَّهار، والقَمر بالشَّمس، والحَياة بالمَوت.. إلخ!
حَسناً.. لنَأخذ الأمر «وَصلة وَصلة»، كَما يَقول أهل الأكل والشُّرب، والتهام الأطعمة..!
أولاً: مِن حيث الابتسامة.. تَبدو عَجائز بريدة مُقاطعات للابتسامة، وكأنَّ الضّحك «جبنة دنماركيّة»، مَع أنَّ الإسلام يَحثُّ على الابتسامة، ويُعطي عليها صَدقة، ولكن يَبدو أنَّ عَجائزنا في هذه الصَّدقة مِن الزَّاهدين، أمَّا في برمنجهام، تَجد السيّدة قَد شَارفت عَلى التّسعين، ومَع ذَلك تَجدها مُتفائلة، ومُنطَلِقَة وسَعيدة.. تَنتظر غَدها، وتَعيش يَومها، وتَبتسم لأمسِهَا!
ثانياً: مِن حيثُ السَّواليف والحَكاوي.. تَجد عَجائز بريدة يَعشن دَاخل قَاموس؛ مُكوَّن مِن ثَلاث أو أربع جُمل، مِثل: «يَا ولدي قرَّبت أموت»، «يا عيالي برّوا فينا»، «يا أولادي ارحموا حَالي بُكره أموت»، «ستَندمون عَلى تَقصيركم مَعي».. إلخ!
في حين أنَّ عَجائز بريطانيا، تَتكلَّم عن «رحلة الصّيف المَاضي»، و»رحلة الصّيف القَادم»، وأين ستَكون.. في باريس أم نيويورك؟!.. إنَّها سيّدة نَسيت كُلّ الهموم، وتَذكَّرت أنَّ الحياة هي «السَّاعة التي أنتَ فيها»، وكأنَّ عَجائز برمنجهام تلميذات نَجيبات لشَاعرنا «أبوالعلاء المعرِّي» حين قَال:
«مَا مَعنَى مَات والمَأمُولُ غيبٌ
ولكَ السَّاعةَ التي أنتَ فِيهَا»!!!
ثالثاً: مِن حيث «الشّكوى».. تَبدو العَجائز في بريدة كَثيرات «التَّشكِّي والولولة»، وكأنَّ إحداهن «عصفورة أخذوا مِنها أولادها»، فالشَّكوى قَد تَكون مِن «الرُّكَب»، وأحياناً مِن «ضيقة الصَّدر»، ومَرَّة ثَالثة مِن «الرُّوماتيزم»، ورَابعة مِن «الوَسوسة»، وخَامسة مِن «صعوبة استخدام الحَمَّام العَربي».. إلخ!
أمَّا العَجائز في برمنجهام، فلا شَكوى ولا تَشكِّي، ولا أسف ولا أنين، ليس لأنَّهن لا يَعرفن الشَّكوى، بل لأنَّ الشَّكوى لا تُفيد، بل هي مَضيعة للوَقت، لذا حَديثهن يَدور حول الأكل وطَبق اليوم، والاستمتاع بالوَقت، لأنَّ العُمر مِثل النَّهر «يَجري»!
رَابعاً: مِن حيثُ «الأنَاقة».. تَبدو عَجائز بريدة زَاهدات بالمَظهر، إلَّا مَا كَان مِن «دهن العود أو البخور»، و»شيلة مِن أيَّام المَرحوم»، الذي مَات مِن خَمسين عَام، و»مسواك عُمره أكثر مِن عَشر سَنوات».. في حين أنَّ عَجائز برمنجهام نَجد إحداهن قَد خَرجت إلى النَّاس بكَامل زِينتها، وقد وَضعت كُلّ «الأصباغ» اللازمة، لإخفاء تَجاعيد الشّيخوخة، وطَمس عَجلات الزَّمان التي مَرَّت عليها، ومِن حُسن الحَظ أنَّني أكتب هذا المقال، وأنا في مَقهى أمامي سيّدتان برمنجهاميتان، وقَد دَعتاني للجلوس مَعهما، وكَانت فُرصة لالتقاط مَا احتاج منهما، خاصَّة وأنَّهما قَد تَجاوزتا «الثَّمانين»!
خامساً: مِن حيثُ دخول الحَمَّام.. تَبدو العَجائز في بريدة؛ إذا دَخلن الحمَّام خَرجن وقد تَركن الحمَّام؛ وكأنَّه «سيول جُدَّة» يَفيض مَاءً، في حين أنَّ عَجائز برمنجهام يَكتفين باستخدام «مَنديل»؛ لا يَكاد يَراه حتّى مَن يُنظِّف الحمَّام!
سادساً: مِن حيثُ الحقيبة.. الأصح في عَجائز بريدة، أنَّهن لا يَحملن حَقيبة، ولكن إن حَملنها، فلن تَجد فيها إلَّا «مُفتاح البيت»، و»شويّة حَلتيت»، و»شويّة فيكس»، و»مَرهم للعيون»، و»أدوية الضَّغط والسُّكر»، أمَّا البرمنجهاميّة، فستَجد في حَقيبتها «عناوين المحلَّات»، و»شويّة عطر فرنسي»، و»نظَّارة قراءة»، و»جوَّال وآلة حَاسبة»!
حَسناً.. ماذا بَقي..؟!
بقي الكثير مِن المُقارنة أتركها للقُرَّاء، وإذا لم يَقولوها، سأقولها في المستقبل القَريب..!.