يزدري بعض العرب كل الفنون التي تتطلب مهارة جسدية، أو إبداعات يدوية، أو مجهودات مهارية؛ لذلك تجد أنه يكثر بينهم الواعظ والناصح، والمرشد والشاعر، والحكواتي والروائي، والقاص والكاتب، مثل «الدلخ» الذي يكتب لكم الآن... ولكن من الصعب أن تجد من يطمح أن يكون طبيبًا ماهرًا، أو مهندسًا خارقًا، أو معماريًّا بارعًا؛ لأن مثل هذه الوظائف تتطلب جهدًا عسيرًا، يصعب على العربي أن يوفره لنفسه، هذا من وجه... ومن وجه آخر فإن المهن الحرفية تحمي نفسها، وتطرد الدخلاء عنها، فمن يعبث بالهندسة أو بالكيمياء، أو يمزح مع الكهرباء، فسيجد النتيجة فتاكة، وستنتقم هذه المهن لنفسها، وتقتل من يقترب منها، إن لم يكن متخصصًا فيها، ولو وسعنا الدائرة أكثر لدخلنا في دائرة الحرف التي تحمي نفسها؛ مهن قد يزدريها البعض، ولكنها مهن تتطلب مهارة فائقة، خذ مثلاً: مهنة اللعب أو الرقص، فالأولى تحتاج إلى قدر من اللياقة، فلاعب كرة القدم يحتاج إلى السرعة واليقظة، والرشاقة وسرعة البديهة، وهي مهنة مكشوفة؛ بمعنى أن اللاعب فعلاً قائم بنفسه، بينما الكتابة قد يحضر المرء من يكتب عنه، في حين يستحيل أن يحضر المرء من يلعب عنه، وهذا يفسر أن الكبراء والوجهاء والأمراء والوزراء يمتهنون الكتابة، أو حتى قول الشعر، ولكنهم لا يستطيعون أن يمارسوا اللعب بالكرة، والأمر نفسه ينطبق على الرقص، فأي راقصة في الدنيا تحتاج إلى التدريب المستمر، والرشاقة المتواصلة، والمحافظة على جسدها من تداخلات الزمن، وعوامل التعرية... وأخيرًا وليس آخرًا، الدقة في تنفيذ المهمة، بحيث يتمايل الجسد وفقًا لإيقاعات الموسيقى، هذه المهنة -أعني مهنة الرقص- من أصعب المهن، لذلك حاول العربي أن يحقّرها، ويقول في أمثاله: (من رقص نقص)، وهو لم يكن صادقًا في هذا، فالعالم العربي مليء بالراقصات، اللاتي يتسمن بالبياخة والسذاجة، ومن منا لم يشاهد الردح والدبكة، أو العرضة أو الهجيني، أو السامري أو الرقص بالسيف، أو الرقص بالجنبية... كل هذه رقصات، وهي فعلاً تدل على النقص؛ لأنها لا تعتمد على أي براعة أو موهبة، وكل الذي يحصل هو تمايل الجسد بشكل مترهل، يذكرك بالسكارى..!
إن الذهن يتذكر أن الشاعر الراحل «محمد الماغوط» -رحمه الله- غضب من اهتمام الناس ببعض الراقصات، في حين أنهم يهملون الاهتمام بالشعراء، ومع الاعتذار لشاعرنا وكاتبنا الساخر «الماغوط»، أقول: يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا يهتم الناس بالراقصة ولا يهتمون بالشاعر؟! والجواب بشكل بسيط يتلخص في أن الراقصة تدعو إلى الفرح، وتبعث على الهمّة، في حين أن الشعراء يزرعون التعاسة، ويحرضون على الحزن، ويكفي أن أشهر ديوان لشاعرنا «محمد الماغوط» يحمل عنوان: (الفرح ليس مهنتي)..!
حسنًا... ماذا بقي؟!
بقي القول: يا قوم... سواء اتفقنا أو اختلفنا مع الرقص، وقبوله بالمجتمع، لا يمكن أن نختلف -بحال من الأحوال- أن هذا الفن يحتاج لسلسلة طويلة من المهارات، عجز عنها العربي، وخاف من إعلان عجزه، فاتجه إلى شتم الفعل، واحتقار من يمارسه، لذلك قال: (من رقص نقص)..!