يجهل بعض الأهل أن هناك أحيانًا نوعًا من الحب قد يقتل، وأن السيطرة والتحكم والديكتاتورية قد تسبب غالبًا الكبت، الذي بدوره يولد الانفجار، وبسببه قد ترفع بعض الفتيات لواء التمرد، معلنات العصيان على أسرهن، ليتوجهن هاربات انتقامًا من ذويهن، فهناك العديد من القصص التي نسمع عنها أو نقرأها عن هروب الفتيات، وترافق هذه القصص نهايات معظمها مأساوي!! تُرى ما الذي يدعو أي فتاة للتفكير في الهرب من منزلها؟! وما الذي يحثها على مثل هذا الفعل رغم قسوته لاسيما أننا نعيش وسط مجتمع محافظ، وتزعم بعض الأسر بأنها لا تدرك الأسباب الحقيقية وراء هروب بناتهم، لكن الأسباب تتضح من خلال عرض سريع لبعض حالات لتلك القصص، على سبيل المثال هناك فتاة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، تعيش مع عمها بسبب انفصال والديها وزواج الأب بأخرى والأم بغير والدها، وكان عمها يعنفها بقسوة، ويعاملها بوحشية، ومع زيادة العنف خرجت ذات يوم ناقمة على كل شيء حولها، مقررة ألا تعود إلى البيت، وأخرى تقول: «سبب تشردي يعود لزوجة أبي ومعاملتها القاسية معي، فهي لا تحبني، وتبعد اهتمام والدي عني، لدرجة أنه كان يدعني أنام خارج المنزل ليرتاح مني، فكان لا يعرف عن أموري ولا عن أحوالي شيئًا، ولم يحس يومًا بمعاناتي وقهري، حتى أصبحت أكره البيت، وقررت الفرار من قسوته علني أنسى آلامي»، وهناك من تقول إن والدها أراد تزويجها من صديقه الذي يكبرها بعشرات السنين، وعندما رفضت أراد إجبارها بالقوة فهربت، وهناك أب يسلب راتب ابنته الموظفة، ويراوغ في رد الخطَّاب، ويرفض كل من يتقدم لها، رغم أنها شارفت على الأربعين من عمرها، وأحيانًا قد يصل الأب لمرحلة مدمرة في حالة تعاطيه للمخدرات وممارسة العنف بجميع أشكاله، وهناك من يصل به الشك لدرجة تجعله يمنع بناته من الخروج من المنزل، حتى لطلب العلم، ويحرم عليهن استخدام التليفزيون أو الهاتف، والهروب قد يكون معنويًّا وهو الأكثر شيوعًا، وذلك بسبب انعزال الفتاة عن أسرتها، وكتمان همومها ومشاكلها، والبعد عن الجلسات العائلية، وهو غير الهروب المادي الذي تعاني منه بعض الأسر، التي لا تعرف إذا غابت ابنتها عن المنزل ليوم أو اثنين؛ لأن كل فرد يعيش في وادٍ بعيد عن الآخر، إن قضية خروج الفتاة من منزلها وتغيبها عنه لفترة من الوقت، إحدى المشاكل الاجتماعية، التي بدأت تظهر في مجتمعنا، رغم أنها تبقى حالات محدودة، لكنها من القضايا الاجتماعية المهمة التي ظهرت على السطح نتيجة للعديد من الأسباب، أهمها التفكك الأسري والاجتماعي الذي يغيب رقابة الوالدين، وانهيار الأسرة من خلال سوء المعاملة، سواء بالتدليل الزائد أو العنف والقسوة والحرمان، أو لعدم المساواة بين الأبناء.
بجانب غياب لغة الحوار داخل الأسرة، وغياب التفاهم بين الأبناء والآباء، غالبًا ما تعاني الهاربة ماديًّا أو معنويًّا من ضعف الاهتمام الأسري، وعدم القدرة على مواجهة الضغوط المتعددة، كل ذلك نتيجة لجهل الوالدين بأساليب التربية الصحيحة، وقبلها ضعف الوازع الديني، بجانب صديقات السوء.
وتزداد مشكلة الهروب نتيجة رفض الأهل تفهم نفسيات بناتهم، وعدم الاعتراف بوجود مشاكل تهدد استقرارهن النفسي والاجتماعي، وبالتالي يعلو الجدار بينهم، وإذا لم تحصل الفتاة على الإشباع من أسرتها، ستظل تعاني من القلق، وانعدام الدفء، والشعور بعدم الأمان، والقهر، واليأس، والحرمان العاطفي، مما يولد لديها الإحباط والعزلة والاكتئاب أو التمرد والعصيان والرغبة في الانتقام.
ومع الأسف أحيانًا تعزز وسائل الإعلام السلوكيات الخاطئة، التي غيرت كثيرًا من المفاهيم والقيم الدينية لدى جيل اليوم، مما يصعِّب من مهمة الأسر والتربويين، وأصبحت مفاهيم الحب والصداقة والعلاقات مباحة في متناول الكثيرين، دون وجود أي رادع، وكل هذه العوامل تؤثر في الفتاة، لتخلق منها شخصية متمردة ضعيفة مكبوتة، أو شخصية سطحية تجري وراء المتغيرات، التي تنادي بالحرية والخروج عن المألوف والانسلاخ من الجذور، فلا بدّ من توفير الاحتياجات والاعتدال والتوازن في جميع جوانب الحياة، فلا يطغى جانب على آخر، وعلينا مواجهة مثل هذه القضايا بكل حكمة وحنكة وتوازن ووسطية واعتدال، أما الهروب فلن يجدي نفعًا، ولا بدّ من مسايرة العصر بما يستجد فيه من متغيرات ومستجدات، وبما يتوافق مع تعاليم ديننا الحنيف.
أنين الحياة
حقيقي إن قضية هروب الفتيات لم تصل بعد إلى حد الظاهرة، لكن ذلك لا يمنع من التصدي لها والبحث عن الأسباب والوقاية ووضع الحلول المناسبة لها من قِبل الجهات المعنية، وإذا لم يتم تدارك الأمر، وإن لم تعالج الأسباب، فقد تصبح في يوم ما ظاهرة واضحة.