الوحدة لا تعني دائمًا أنك غير محاط بالناس، ولكنها تعني أحيانًا أن المحيطين بك لا يكترثون لك حقًا، ولا يفهمونك، ولا يشعرون بك، وربما يستعجلون القدر لكي يخلصهم منك، ويعفيهم من واجباتهم تجاهك، ومسؤولياتهم المعنوية والأخلاقية عنك.
هذا النوع من الوحدة قاس، جارح، مدمر، يمكن أن يقودك إلى تمني الموت اليوم قبل غد.
عرفتها أثناء مقامي في فرنسا، خلال دراستي الجامعية.
كنت في كلية باريس دوفين، في السنة الأولى من شعبة الاقتصاد التطبيقي، تخصص تسيير وإدارة. كانت الدورة الثانية صعبة جدًا؛ دروسها كثيرة ومعقدة، واحتمالات الرسوب فيها كبيرة جدًا. كان جميع الطلاب خائفين من الامتحانات، وكنت أعاني مصاعب في بعض المواد غير الرئيسة التي أهملتها رغمًا عني بسبب ظروفي المادية الصعبة. كنت أعمل في مطعمي أكلات سريعة بدوام ثقيل، ما أجبرني على التغيب باستمرار. اجتزت الامتحانات الرئيسة بتفوق، ورسبت كما كان متوقعًا في مادة الديموغرافيا، وهذه واحدة من المواد غير الرئيسة التي اضطررت للتضحية بها.
حضرت جيدًا لاختبار المادة الاستدراكي، ودلفت ساعة الامتحان لمكتب أستاذ هذه المادة الذي كان في نفس الوقت رئيس تخصص التسيير والإدارة. جلست حيث أشار لي، وتهيأت للإجابة على ورقة الأسئلة التي سلمها لي. ولا أدري كيف وقعت حقيبتي في لحظة ما وانقلب محتواها أرضًا.
بدا الأستاذ مهتمًا بإحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز التي كنت أحتفظ بها.
سألني بعد الاختبار عن هذا الكاتب. بدأت أحدثه عنه، وقاطعني بلطف وسألني إن كنت سأقبل دعوته لشرب فنجان قهوة مع والدته. «هي مولعة بكتَّاب أميركا اللاتينية، وبالخصوص غارسيا ماركيز، ستسر كثيرًا بمجاذبتك أطراف الحديث عنه...».
بدأت في تلك اللحظة حكايتي مع والدته العجوز الأرستقراطية اللطيفة.
السيدة قارئة نهمة، لا يبدو أنه ينقصها شيء لتنعم بسعادة يحسدها بقية الخلق عليها. الوسط الذي تعيش فيه ثري، أولادها موظفون كبار، صحتها جيدة، منزلها فخم، زوارها كثر. في جلستي الأولى معها أخبرتني بأنها تحب غارسيا ماركيز؛ لأنه أفضل من صور الوحدة، وتحدث بعمق عنها، وعبر بصدق عن جحيمها.
الوحدة... الكلمة التي صارت تتردد كثيرًا كلما ذهبت إليها.
اطمأنت إليّ، وفتحت لي قلبها.
لم تعد تقوى على مواصلة المشوار. أحِبّتها رحلوا: والداها، أختها الكبرى، زوجها، رفيقاتها. لم تكن تشعر بالغربة ولا بالوحشة قربهم. كانوا يملأون حياتها، يغدقون الحب عليها، يتحدثون إليها، ويشعرونها بأن ثمة في الحياة أشياء كثيرة يشاركونها الاهتمام بها. كان زمنًا جميلاً ولَّى إلى غير رجعة. الآن تعيش ما تبقى لها من عمر بشكل آلي: تنام، وتأكل، وتبتسم للناس، وتستقبل الزائرين، وتهتم بشكلها وصحتها، وتشعر بالوحدة البالغة وسط كل هذا.
أولادها يدورون كل في فلكه، وهي تعذرهم، لكل زمان مشاغله ومشاكله، يطلون عليها؛ ليسألوا إن كانت تحتاج لمال أو أغراض أو كانت ترغب في السفر. يرحلون قبل أن ترد عليهم. «يمرون كالإعصار، قالت بمرارة، ولا يحفلون بالدمار الذي يخلفونه وراءهم». زوارها يجرون خلف مصالحهم المختلفة. الأطباء يحافظون على زبونة سخية، والمعارف يريدون توصية أو خدمة، والأهل يشتكون من فلان أو علان، والجيران يبحثون عن جديد يتناقلونه بينهم. لا تجد من يسألها ببساطة: «كيف الحال؟» ويقعد؛ ليستمع باهتمام لإجابتها. تعبت، ولم تعد تجد نفسها سوى في قراءة القصص والروايات. وحتى هذه صارت شيئًا أشبه بالمزحة عند المحيطين بها. «فلانة؟ انتظرت حتى شارفت على الثمانين وعادت لدراسة الكتب!.
ولدها نفسه، الأستاذ الجامعي الكبير، الذي يقضي وقته بين أوراقه وكتبه، لم يجد الوقت ليناقشها ما تقرأ، وأتى لها بإحدى طالباته؛ لتقوم بالمهمة بدلاً عنه!
أكذب إن زعمت أنني استمتعت بكل جلساتنا. أخرج منهكة من بيتها، وأحيانًا باكية. ما تقوله السيدة لا يساعد على النظر بتفاؤل للغد. ليس من السهل على المرء أن يرى المصير المحتوم يقترب، والأحبة يرحلون، والعزلة تشتد وتحول الزمن الباقي إلى سجن موحش وكئيب.
أخرج من عندها متأثرة، وأفكر في جدتي العجوز، في قريتها الريفية النائية جنوب المغرب. فاجأتنا بزيارة خاطفة أثناء استعدادي للسفر إلى فرنسا. أتت بذهبها القليل وباعته وقدمت لي ما أغطي به تكاليف رحلتي.
ترى، هل تشعر هي أيضًا بالوحدة في كوخها الطيني البسيط، بعد أن مات الزوج ورحل كل الأبناء إلى المدينة؟
هل تبحث هي أيضًا عمن يجالسها ويتجاذب أطراف الحديث معها؟