كنت أسير في شارع هادئ، تشتبك غصون الشجر فوقه، صانعة سرادقا أخضر، والطيور في هذه التعريشة تنادي وتتجاوب، تقترح اليمامة القيام بأمر جميل، فيرد الهزاز «موافق»، ويهتف حشد العصافير كأنه في طابور الصباح: تحيا بلاد الربيع الأبدية.
وفي ذلك الطريق المظلل، المنعم بروائح الورد والفل والياسمين، كنت أسير ووجهي مرفوع، أتأمل الجنة التي فوق رأسي، وإذا بي أصطدم برجل ضئيل محدودب الظهر، جسمه جسم طفل، وعمره -من قراءة التجاعيد في وجهه- يقارب المائة.
اعتذرت له عن اصطدامي به دون قصد، فعاجلني بسؤال:
- ماذا تصنع في أرضي؟
عرفت فورا أنه مجنون، فقررت أن أسايره، ربما حظيت منه بلحظات من الدعابة البريئة غير الجارحة، فلم أكن أنوي -ولا أحب- أن أسخر منه.
سألته عن اسم بلاده، أو بالأصح، ذلك الشارع، فقال:
- هذه وردستان..وقديما كان اسمها ياسمينستان.
- ولماذا تغيّر الاسم؟
- أصبحت رائحة الياسمين تثير أعصابي، فهي زاعقة الجمال إلى حد البكاء.
- وماذا عن ألوان الورد، ألا تثير أعصابك، أعني الأحمر الفاقع، والأصفر الزاعق، والوردي المتبرّج، والأبيض المتأنّق ذا الجمال الأرستقراطي، كل هذا الزحام من الألوان ذات العطر، ألا يصيبك بالجنون؟
- نعم، أنت على حق، سأفكر في اسم جديد، ربما كان ريحانستان.. ما رأيك؟
- اسم ظريف، ولكن قل لي ما علاقتك بسكان هذه الفلل -أقصد البلاد- ولماذا لم ألمح منهم واحدا، رغم أني سرت في هذا الشارع كثيرا؟
- سكان مدينتي ينامون.
- ينامون النهار؟ هل هم كائنات ليلية؟
-لا.. لا.. ليس هذا، إنهم فقط ينامون القيلولة.
- يبدو أنها قيلولة طوال اليوم، لكن قل لي..
- «يا سيدي». . قل لي «يا سيدي»
- ليكن، قل لي يا صاحب العِزَّة، لماذا كل النوافذ مغلقة؟ كذلك أبواب الشرفات، ولا يوجد باب واحد، لا يوجد إلا الزرع والطير والنسيم، والعطر الذي يركب ظهر النسمات؟
- ولماذا تريد أن يوجد شيء عدا ذلك؟ تلك التعريشة فوقنا هي بلادي، وسكانها أهل البلاد، فلماذا تتلفّت حولك يا هذا؟ لماذا تُطيل النظر لم لا يخصك؟ لتظل النوافذ والشرفات موصودة، ولتنعدم في هذا الشارع رائحة الإنسان، على الأقل لن يتحلّق حولي السفهاء، يسخروا مني، ويتهكموا عليّ؛ لأن الله أعطاني جسد طفل بتجاعيد ألف عام!
- ولكن أين ذهبوا؟ لقد بدأت أخاف!
- اسمعني جيدا، إني أراقبك منذ زمن طويل، لقد مررتَ من هنا عدة مرات، ودنَّست هذا الشارع، وقد صبرت عليك؛ لأني قرأت في وجهك الطيبة، ثم قلت لنفسي: لأحاوره، ربما وجدت فيه رفيقا طيبا، وعقلا عاشقا للجمال، يجاوب عقلي، لكنك الآن بدأت تسأل أسئلة تثير القلق، فاعلم أني أملك من الغربان والصقور والوطاويط ما يكفي لقتلك آلاف المرات.
- أرجوك، اتركني أذهب، إن الناس خلف النوافذ ينامون القيلولة، وهذا أمر عادي، يحدث كل يوم، ويظل يحدث كل يوم.. آه.. التعريشة فوقي تقصفني بقنابل خضراء.. آه!!
فتحت عينيّ والقنبلة الأخيرة تهبط فوق خدي، مددت يدي.. كانت فضلات عصفور.. تلفتُّ حولي.. فإذا بي نائم على الرصيف، يتساقط فوقي مطر من ياسمين!
إذن لم يكن هذا الرجل إلا حلما، لكن.. لماذا؟ ما الذي استدعى هذا الحلم، في هذا السلام الممتد المعطر، في هذه الجنة الظليلة الغردة؟
أدار وجهي نفسه إلى اليمين واليسار، نعم، إنها تلك النوافذ المغلقة، هذا الصمت الجميل الذي يتحوّل بعد حين إلى صمت مريب، إن هذا الصمت يكاد يفسد على الجمال والحسن، جمالَه وحسنَه، يؤطر الحياة بالموت، يحيط الجنة بسور من نحيب، إنه الشارع بلا أطفال، بلا أمهات، ولا غسيل منشور، ولا رجال يقرؤون الجرائد، لا عجل، ولا كُرة، ولا سبت غسيل، لا صياح بين الصغار يجاوب صياح العصافير.. لا شيء!
وقديما قالوا في الأمثال: «جنة من غير ناس.. ما تِنْدَاس»