أقتطفُ هذه الكلماتِ من مداخلة ألقيتها في خلال انعقاد مؤتمر "الكِبَر في العالم العربي" وغايته لفت الانتباه الى الوجه الصحّي والإجتماعي للتعامل مع المسنّين في بلادنا.
***
وأنا أُصِرُّ على تسميتهم الكبار، لا المسنّين، إذْ كانوا دائماً يُعتبرون كذلك، في مجتمعنا التقليدي، وهم طليعةُ المواكب عندما تسير.
ويتقدّمون الحضورَ، في المناسبات، وإليهم يذهبُ الجميعُ، للمشورة، والإستنارة بأراء تخمّرت، ونضجتْ بفضل المعرفة وتجربة السنين.
وينغرسُ احترامُهم في الحياة كما في الكلمات والأمثال: "واللّي ما عندو كبير، يِشْتْريلو كبير...".
ولكن أو لا تزال هذه حالنا اليوم؟
***
بالطبع، تخترقُ التحوّلات التي تغزو الكرةَ الأرضية، المجتمعات الإنسانيةَ بأسرها، ولا توفّرُ تقاليدَ مجتمعٍ تربّينا ونشأنا فيه، وكان حضنُ الجدّين عرشاً، يسعدُ فيه الصغار ويكبرون في النموّ الطبيعي والمعافى.
ولدى السادة العلماء المشاركين في هذه الندوة أضعافُ مالي من معارف وعلوم.
ولذلك اخترتُ، من أجل لقائنا، اليوم، عنواناً بسيطاً من وحي الجدّات وهنّ حافظات التراث، وقد عاش معي سنين؛ ثم رافقني في ما قمتُ به من رحلات بين مختلف الشعوب والبلدان.
ولذلك، لم أذهبْ بعيداً للبحث عنه، إذ كانت خيوطُه تُحاكُ في وجداني، ومنذ ان فتّحْتُ عينيّ على نورِ الوجود.. وهي جدتي.
***
وكانت، من دونِ قصدٍ أو عناء، تواصل غرس التراثِ في شخصي، بالسلوكِ كما بالكلمات.
واليومَ، بعدما أصبحتُ جدّةً، أعي كم كان ذلك الغرسُ أصيلاً، ومتجذّراً فيّ.
وكلما أقمتُ حواراً مع الأحفاد، أُحسُّها تعودُ، فتتقمّصُ كياني، وتمضي، في بثِّ مخزونها من القصص، والأمثال والحكايات. وخصوصاً لغة الأمثال، وهي الحكمة المختزنة في الذاكرة والوعي وفي أقل مساحة من الكلمات.
وكانت العامَّةُ تمتشقُها، سلاحاً جاهزاً "لوقت الحشْرة". وهي تكاد ان تكون مغيَّبة، مع الأجيال الطالعة كما في اللغة المعاصرة.
***
وقد تذكّرت الجدّة ولغتَها، وحكاياتها، عندما دُعيتُ قبل عقدين من الزمن، الى زيارة شعوب "الإنويت" في القطب الشمالي من كندا. (وهم مَن كانوا يسمونهم إسكيمو).
وكانت غايةُ تلك الدعوة لبعض الكتّاب، الإستماع الى القصص والأساطير المحفوظة في صدور الجدّات إذ لم تكن هناك لغة مكتوبة تسجّلها وتحفظها.
وكان في الحضور جماعةٌ من الرجال، إنما ظلّوا مقيمين في الظلّ قانعين بالإصغاء، إذ لم يكن وقتُهم، أو دورُهم الإجتماعي، يُتيح لهم القيام بتلك المهمَّة حفظ القصص والأساطير والتي ظلّتْ من مسؤولياتِ النساء، فيما كان الصيدُ مسؤوليةَ الرجال.
وحتى الساعة، لا يزال هذا سلوك الرجال، في معظم المجتمعات. فلَهُمُ خارجُ البيتِ وصيدُه، وللمرأةِ أن تحفظَ النسلَ والتراث.
***
وقد تذكرت، وأنا معهم، ما نشأنا عليه في دراسةِ تاريخِ الأدبِ والحكاية، في ثقافتنا العربية، وقبل أن تصبحَ اللغةُ المكتوبةُ وسيلةَ نقلٍ للثقافةِ، وتواصلِ التراث، حين كانت المعرفةُ تتمّ شفاهاً و: حدّث فُلانٌ عن فُلانٍ، عن فُلان، قال".
***
أما اليوم، وبعدما خرجت المرأة لتعمل، أسوةً بالرجل، فهل ستبقى هي حافظة لذلك التراث؟... أم ان التحوّلات التي يفرضها الواقع، والعصر هي التي تتحكّم بالمستقبل.
***
وإني أطرح السؤال، وفي ذاكرتي عبارة لكاتبة أميركية، وتقول فيها: "كنّا نحن الفتيات، نجلس في الصالون، وفي مجتمع النساء، ونصغي الى الحديث وما يُقالُ من كلام... وكان ذلك مصدر الرواية.
***
نعم، لقد جلست المرأة كثيراً وطويلاً في الصالون، أو في داخل المجتمع؛ إذ لم يكن "الصيدُ" منوطاً بها، بل ظلّ همَّها الأول، حفظُ الحياة، في الرحم أو خارجه.
وبرغم وعيها الشديد لأهميّة ذلك الدور، إلاّ أنها كانت تمسكُ، وبنفس الإهتمام والوعي، بزمام التقاليد، من أسلوب التعامل مع الطفل، وقايته، وتغذيته ورعايته، الى المحافظة على التراث والتقاليد الإجتماعية المتداوَلة بين الناس، وتغرسها في كيان الأحفاد والأولاد، من دون قصد أو تعمُّد. وكانت الجدات طليعة من توّلين تلك المهمّات.
***
ويأتي اختياري لهذا العنوان والتركيز على الجدّات الآن، من خوف ينتابني لدى مراقبة التحوّلات الجارفة، لا في مجتمعنا وحسب، بل وفي العالم.
وبالطبع، أنا منفتحة على التغيير والتحوّلات، إنما يعودني، في مثل هذه المناسبة، قولٌ شهيرٌ للزعيم الوطني الهندي، المهاتما غاندي وما معناه:
"أرحِّب بالرياح، رياح التغيير من أية جهة تهبّ، إنما أربأ بواحدة منها، أن تقتلعني من جذوري".
***
فأرجو أن تُبقي لنا رياحُ التغيير العاتية، وهي تهبُّ علينا من كل صوب... أرجو أن تحفظ لنا خصوصيَتنا التراثية والخلقية، وما ادّخرته الجدات مع الأجداد، من كنوز تراث عريق نفخر به، وبه نتميّز بين سائر الشعوب.