منَّ الله عليَّ بفضله وكرمه بالحج إلى بيته الشريف مرتين.
المرة الأولى كانت مجرد إسقاط فريضة، فقد كنت أسير كما يسير الناس، أفعل كما يفعلون دون أي استحضار للمعاني العظيمة لكل منسك من هذه المناسك، وكل ما كنت أتمناه، أن أرجع إلى بلدي مرتدية الثوب الأبيض، ويقول لي الجميع: «حمدا لله على السلامة يا حاجة».
تلك كانت تجربتي الأولى في الحج.
ثم منَّ الله عليَّ مرة أخرى بحج بيته العتيق، ولكنها كانت مختلفة بكل المقاييس.
أول مرة أستحضر معنى الذهاب إلى الحج، متجردة من كل شيء، حتى ثيابي الغالية، إلا ثوبا بسيطا وسط ملايين غيري من البشر ومن جنسيات كثيرة، ولغات كثيرة وألوان كثيرة يطلبون عفو رب واحد عند بيت واحد،
فها أنا أسعى مرة أخرى ما بين الصفا والمروة، جبلان يحملان الكثير من المعاني الكبيرة في اليقين.
هذه المعاني التي علمتنا إياها السيدة هاجر –رضي الله عنها- حين تركها نبينا إبراهيم عليه السلام في هذا الوادي القاحل، هي وابنها الرضيع فلذة كبدها، فتسأله في حيرة واضطراب بعد أن أدار ظهره لهما وانصرف تناديه: (آلله أمرك بهذا؟ فيلتفت إبراهيم عليه السلام إليها ويجيب برأسه بالإيجاب، فترد هذه السيدة والزوجة العظيمة: «إذن فلن يضيعنا»).
يا الله... ما هذا اليقين في الله من هذه الزوجة؟
ما هذا الانصياع التام لأوامره؟
فلو كانت امرأة منا في هذا الزمان، لقالت لزوجها رافعة حاجبيها: بعد وابل الانتقادات «ذاهبة لبيت أهلي، فأنا لي أب وأم يردان عليك».
الزوجات الآن ليس لديهن أي استعداد لتحمل أي صعوبات أو تضحيات في حياتهن الزوجية، وهذا هو سر سبب الطلاق الذي يحدث كل يوم.. فهل أخذنا درسا في اليقين والصبر والتضحية من السيدة هاجر، وهي تجري وتهرول سبعة أشواط بين الصفا والمروة، بحثا عن قطرات من الماء تسد بها صراخ صغيرها الرضيع يقينًا في المكافأة؟
وتأتي الجائزة.. يأتي الأجر، فيفجر الله لها ينبوعا من الأرض الصخرية!! ماء زمزم، هذا الماء الذي سيظل حتى قيام الساعة، يروي الحجيج وزوار بيت الله الشريف؛ لتكون كل قطرة في ميزان حسنات تلك السيدة العظيمة.. إخوتي وأخواتي، انظروا إلى مكافأة الصبر واليقين في الله.
ومَنْسك وراء مَنْسك، الوقوف بعرفة ثم المزدلفة ثم منى، أعيش بكل حياتي هذه المناسك، وأتوقف أمام رجمِ سيدنا إبراهيم –عليه السلام- إبليسَ لعنه الله.
فكم نحتاج أن نرجم إبليس اللعين وشياطين الإنس قبل شياطين الجن.
كم مرة بالله عليك -أختي وأخي- تنوين أو تنوي ترك معصية أو فعل طاعة، فيوسوس الشيطان بالعدول عنها.
ارجموه بلا تردد، فالعقبة الكبرى والوسطى والصغرى نعيشها كل يوم، بل كل لحظة في حياتنا.
دعوة مني لكل من لم يكتب له الحج هذا العام. أن يسعى وراء رزقه ويرجم شيطانه ويستغفر لذنبه..
يا رب تقبل... ومن يفعل ذلك فكأنما حج بقلبه.