حلّ الدفء لكن قلبي بردان

فهلا أشرقت بربيعك في قلبي، ودفّأت دمائي، وسطعت شمسًا من فرح، شمسًا حنونًا.. لا جنوبية ولا شمالية، متوسطية، تذكر بزيتون تونس، ببرتقال يافا، برائحة يود البحر في الإسكندرية، في كل المواني العربية، المطلة على البحر الجميل الخطير، الأبيض الأسمر، الذي يلم شمل الحب والحرب بين الجنوب والشمال، كأنه خيط واهٍ ملضوم فيه الياسمينة جنب الرصاصة!

أشم رائحة أشجار مارس. أشم قنابل الغاز والرصاص.  أحتاج إلى قناع، أحتاج إلى قلب مصمت، لا يشعر بالدفء ولا بالبرد.

أحتاجك يا سيدتي. يا من أوقعت خمسين عصفورًا بنظرة واحدة. عيونك تطلق الرش الأخضر المرهف فتتهاوى وتسجد الأشياء. وأنت لم تعودي تنظرين نحوي، فصرت حجرًا، مسختني الحياة، على صورتي، حجرًا باردًا، ومازالت في وجهي تقاسيم النداء، وذراعي ممدودة ويدي.

كل الناس يحبون السلام، ومعظمهم يقتلونه، أو يرمونه بحجر. كل الناس يتحدثون عن الحق والخير والعدل والجمال، وكثير منهم يشوهونه، عمدًا أو جهلاً، ويساهمون بهمة في إفساد الأرض. وعندما يقول كثيرون «الحق» فهم يقصدون «المصلحة»، سواء انتبهوا إلى ذلك أم لم ينتبهوا، لقد جعل الناس الأرض شديدة التلوث، فاسدة الماء والهواء. وفي بلادنا يضرب الفساد في العقل والروح واليد والكبد!

فيا عجبًا من رائحة ربيع تجد الأبواب موصدة، أبواب الحدائق والبيوت، أبواب العقول والقلوب والدساتير.

قال إبراهيم ناجي يناجي حبيبته:

إني غريب تعال يا سكني         فليس لي في زحامهم أحد

لكن ابني في الزحام، وابن الجيران، وأبناء الأصحاب، منهم شباب ومنهم أطفال، أولاد وبنات خرجوا من أحضاننا إلى الحياة، يحلمون حلمًا صاحيًا.. لا أستطيع يا ناجي أن أعلن العزلة الرومانسية. أنا في البيت وقلبي في الشارع، يتعرض للموت في كل لحظة. «مارس» على الأبواب، والخطر على كل باب، عصفور الدفء ينقر قلبي، فيجده متكلسًا بملح دموع ارتدت خلف عينيّ؛ خوفًا أو خجلاً أو كبرًا على مدى أربعين عامًا من الحلم والخيبة، ومعاودة الحلم وعودة الخيبة أعمق وأشد رسوخًا.

لقد ترسب ملح دموعي على شرايين قلبي، وتراكم حتى جعله منطقة معزولة، لا تداعبها أنامل الأمل، لا تصلها فرحة ولا شجا أغنية. صرت كائنًا شتائيًا، يثير قلقه حلول الدفء؛ خشية أن يفسد منظومة الاستقرار الكالح الرتيب الراكد الخانق.

إذن.. لماذا أتذكرك الآن؟ لماذا أناديك صامتًا؟ من أنت؟ هل أنت موجود أم فكرة؟ أم صورة أنثوية للوطن؟ إن كنتِ معنى فأنت معنى جميل. إن جمالك يتسلل خلف جدار الملح الإسمنتي.. هل أنت إذن بهجة الربيع؟ لعبة الشمس والشجرة والعصفور؟ أم أنت ما هو أعظم من ذلك بكثير؟!

ضجيج قلوب ملايين العاشقين تدق معًا كمطبعة عملاقة تعيد كتابة المكتوب، لا تعترف بمكتوب، إلا ما تكتبه وتحفره في الأشجار

أنت إذن ذلك الانفجار.. انفجار الورد في «مارس».. في الربيع الجغرافي، وفي الربيع التاريخي. أشرقي إذن.. بجلال وثقة، على مهل، بإصرار وحكمة ونزق طفولي جميل.

إني في انتظارك. انسفي جدار الإسمنت المملح داخلي. ادخلي إلى الشرايين واسبحي في دمي، ورددي أغنية يغنيها الناس صحبة.. إن لي في زحامهم أحدًا.. كثيرين.. ملايين!

حلت بشائر الدفء على حذر.. ومازالت حبيبتي «متغيبة» عن البيت.