من فنون البلاغة التي عرفها العرب، فنٌّ يُعرف بحُسن الجواب وحُسن التعليل، وهو فنٌّ يُظهر براعة العربي في التملّص من الخطأ، ويعفيه من الإحراج.. ولعل أقرب مثال
لذلك، ما نقلت لنا كتب التراث من أن أحد الخلفاء رأى حلمًا مفزعًا، فجمع حاشيته
وطلب منهم أن يحضروا له أفضل العارفين من مفسّري الأحلام، ومن ينجح منهم في تفسير حُلمه بما يُدخل السرور على قلبه، فسيغدق له العطايا، ومن يفشل في ذلك يكُنْ قد حكم على نفسه بالموت!
فقال الأول للخليفة: سيموت أهلك فردًا فردًا ثمّ تموت أنت أيضًا،
اكفهرّ وجه الخليفة واستشاط غضبًا وأمر به. وبعد أن رأى المُفسّر الثاني ما حلّ بزميله في «الكار»، أراد أن يتجنّب مصيره من خلال حيلة لغوية، قائلاً: ما رأيته في منامك يعني
أنك أطول أهلك عمرًا، فانفرجت أسارير الخليفة! طبعًا كلاهما توصّل إلى نفس الاستنتاج، وهو أن ما رآه الخليفة في منامه يعني موت أسرته ثمّ موت الخليفة نفسه، لكن الفرق بينهما يكمن في انتقاء المفردات، في حيلة بلاغية تمرّس العرب قديمًا على إتقانها!
بعد كل هذه المقدمة، يمكن القول: إن القوم الآن هم بأمس الحاجة إلى تعلّم «حُسن
الجواب» وتلطيف الإجابة، وتكحيل الكلمات، و«صنفرة» الردود؛ لأن «جلافة العربي»
أصبحت مضربًا للمثل، ورعونة إجاباته قدوة يُقتدى بها في سياق التمثيل على جفاف
اللغة وشحّ المفردات.
خذ أمثلة على الإجابات التي يجب أن يتعلّم كل راغب في تطوير ذاته الاقتداء بها،
ومحاولة السير على منوالها! هذا خير له من متابعة مؤامرات أميركا في المنطقة،
وقضايا كشمير والصومال وحصار غزة!
وقد روى شيخنا أبو سفيان العاصي في كتابه «الوافي في الكلام الوقافي» أن أحدهم رأى فتاة جميلة، وقد علّقت على صدرها طائرة ذهبية، فأطال النظر في الطائرة.. فقالت له:
هل أعجبتك الطائرة؟ فقال: لا، إنما سحرني المطار!
وحتى يجمع شيخنا أبو سفيان بين المعاصرة والتراث، ذكر مثالاً من تراثنا الأصيل، حيثُ
قال: جيء بأعرابي إلى أحد الولاة لمحاكمته على تهمة، فلما دخل على الوالي، أخرج
كتابًا ضمّنهُ قصتهُ وقدمه ُله وهو يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه.. فقال له الوالي:
ويحك، إنما يقال هذا في يوم القيامة.. فقال الأعرابي: هذا والله أشد من يوم القيامة، ففي يوم القيامة، يؤتى بحسناتي وسيئاتي، أما أنتم فقد جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي!
ومما يتصل بالتراث ما رواه العالم أبو العبر، حيثُ قال: سألني العباس بن ثعلب بقوله:
هل الظبي معرفة أم نكرة؟ فقلت: إن كان مشويًا على المائدة فمعرفة، وإن كان في
الصحراء، فهو نكرة.. فقال العباس: والله ما رأيت في الدنيا أعرف منك بالنحو!
وفي مجال المزايدة في حب الوطن يُروى أن ضابطًا قال للمتطوع الجديد في الجيش: أنت
إذن تشكو من وجود رمل في الطعام؟! أجاب المتطوع: نعم يا سيدي.. قال الضابط: وهل
انضممت إلى الجيش لتخدم بلدك أم لتتذمّر من الطعام؟ فرد المتطوع: لقد دخلت الجيش يا سيدي، لأخدم وطني، لا لآكل ترابه!
وفي التناقض الذي تسببه التعاميم الإدارية، يقال إن إدارة أحد الفنادق تسلمت الملاحظة التالية من الشرطة: «الرجاء إبقاء الباب الخلفي مقفلاً منعًا للسرقة»،
وبعد قليل بَلغتها رسالة أخرى من دائرة الإطفاء تقول: الرجاء إبقاء الباب الخلفي
مفتوحًا؛ لتسهيل الهروب لدى اندلاع حريق. وفي ضوء هاتين الحالتين المتناقضتين،
اجتمع مجلس إدارة الفندق وقرر إقامة بابين في الخلف، أحدهما مقفلٌ، والآخر مفتوحٌ!
بعد كل هذا يمكن القول حقًا «إن لكل سؤال جوابًا، ولكل داء دواء»!