يمكنني التحديد بدقة، اليوم، السنة، المكان.
أستعيد اللحظة بكل ما حدث، تنتمي إلى أحد أيام عام تسعة وخمسين من القرن الماضي، يغيب عني اسم اليوم، لابد أنه شتاء، ذلك أنني أرى عبر الذاكرة نافذة الغرفة محكمة الإغلاق وغطاء متكوم فوق السرير الذي أجلس إلى حافته، أستعيد الشعور الدافع، كأنه الدافع إلى بلوغ الذروة الحسية أول مرة، رغبة غامضة، محركة، دافعة إلى الإمساك بالقلم والشروع في كتابة أول قصة قصيرة، عنوانها «نهاية السكير»، كانت حول رجل فقير يتظاهر بأنه فاقد الوعي بتأثير الشرب؛ ليبرر سرقة أرغفة من الخبز.
منذ تلك اللحظة وحتى الآن، مسافة قطعتها في نصف قرن، لم أتوقف عن الكتابة إلا لظرف قاهر، يخرج عن إرادتي، مرض يقعدني أو اعتقال يقيدني.
لحظة ماثلة، لا يمكنني أن أعتبرها بداية، سبقها أربعة عشر عاماً، للأسف لا يتبقى عندنا شيء، لا صورة، لا صوت، لا إحساس معين يذكرنا بلحظة وفادتنا إلى العالم، إلى الوجود، عندما ينقطع الحبل السري، ينفصل المخلوق عن الأم، تتوزع سنواتي الأولى بين موضعين، قرية جهينة في عمق الجنوب المصري، الصعيد الذي اندلعت صرختي الأولى فيه وبدأ سعيي، وإليه أحن الآن وأهفو أكثر من أي مكان آخر رغم شدي الرحال إلى أماكن شتى، المكان الثاني في القاهرة القديمة، درب عتيق، سد، لا يفضي إلى درب أو مكان آخر؛ لذلك كان اللعب آمنًا من أخطار الخارج، في الدرب مراكز هامة تضفي عليه خصوصية، مسجد وضريح مرزوق الأحمدي عند المدخل، أحد شيوخ الصوفية في العصر المملوكي، تلميذ ومريد أحمد البدوي، إلى جواره مقر المشيخة، ثم يبرز قصر المسافرخانة الذي بناه شاهبندر تجار القاهرة في القرن السابع عشر الميلادي، واتخذه محمد علي باشا مقرًّا للضيافة، لكم آثار هذا البناء الذي كان مهجوراً وقتئذٍ في مخيلتي، كنت أصغي إلى مرْويات أهل الدرب عنه، هكذا لكل بناءٍ خالٍ حكايات وأساطير وسكان متخيلون من عوالم أخرى: جان، غيلان، وعفاريت.
الدرب عالمي الأول الذي أعيَه الآن، أول صورة في منظومة الذاكرة تمتّ إليه، ذات ليلة من ليالي حرب فلسطين عام ثمانية وأربعين، غارة جوية إسرائيلية، أثناء انتقال الأسرة من الطابق العلوي الخامس إلى الطابق الأرضي بعيدًا عن الشظايا والخطر، الغريب أنني بعد أن عملت في الجبهة كمراسل حربي خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973، علمت أنها الغارة الوحيدة التي شنّها الطيران الإسرائيلي الذي كان ناشئًا في بدايته وقتئذٍ.
في الخطى الأولى يطرح الطفل أعقد الأسئلة بأبسط نطق، عندما يسأل: أنا جيت منين؟ أليس هذا سؤال الوجود؟ بالنسبة لي كنت أسأل نفسي: امبارح راح فين؟ كان خيالي شاطحًا من خلال عزلة جبلت عليها، ربما بتأثير عزلة الأسرة الفقيرة القادمة من أقصى الجنوب، تسكن غرفة واحدة، الأب موظف بسيط مرَّ بظروف صعبة لم يتمكن خلالها من إتمام تعليمه بالأزهر، أورثه هذا إصراراً شديداً على تعليم أبنائه، كان يقول دائمًا: أريد ألا تعرفوا ما عرفته من شقاء، كنت أول من يعيش وثالث من أُنجبت، سبقني اثنان، خلف وكمال، توفيا في سن مبكرة، الأول قبلي، الثاني بعد مجيئي بعام، لا أذكر عنه شيئًا.