دروع بشريَّة

أنَّ  الطلاق هو أبغض الحلال، إلا أنَّه جُعل لنهاية علاقة غير صالحة للاستمرار، وعند استحالة العشرة بين زوج وزوجة كرها الحياة معًا، وفي نفس الوقت هو قرار يصل إليه طرفان راشدان بذلا كل جهدهما لمحاولة تجنبه، وبعد محاولات عديدة لتجنب انهيار كيان، وهدم أسرة، وتشتيت أطفال، لكن آه من كلمة لكن، عندما يبدأ الصراع العنيف على من اختارهم حظهم العاثر ضحيَّة لأقرب الناس لهم، لآبائهم وأمهاتهم، فأوقعوا عليهم ظلمًا، وفرضوا عليهم أزمات فتكت بطفولتهم وبراءتهم بلا رحمة، بعد أن تم استخدام هؤلاء الضحايا كدروع بشريَّة تخفي وراءها مرارة التجربة، ورغبة في الانتقام وتصفية الحسابات؛ انتقامًا وإذلالاً للطرف الآخر، فيعاني الأبناء من الضغوط الاجتماعيَّة والماديَّة والعاطفيَّة، وتتعدد المشكلات النفسيَّة والصحيَّة والمظاهر السلبيَّة التي يعانون منها، بدءًا من الخوف الزائد وانتهاءً بالتمرد والعنف والسلبيَّة والانطوائيَّة والهروب والانحراف وغيرها؛ نتيجة لعوامل مترابطة، منها داخلي، ومنها ما هو خارجي، وتزداد آلامهم وتتضاعف إذا كانت الحروب مستمرة من مشاحنات لا تنتهي، وكآبة ونكد واستخفاف بأي حق من حقوق هؤلاء الضحايا. يقول شاب لم يتجاوز العشرين من عمره: كان من الممكن أن أعيش حياة هادئة مستقرة، لكن لم أكن سعيد الحظ، فلقد فتحت عينيَّ لأجد نفسي أعيش وسط أسرة مفكَّكة، غارقة في المشاكل والإهمال، لم يكن الضياع بعيدًا عني، بل كان على بعد خطوة مني. بدأت رحلتي مع الضياع وأنا في سن البراءة، حياة غريبة لا تعبّر عن طبيعة الطفولة البريئة، كنت أرى -وأنا في تلك السن الصغيرة- أن زملائي يحظون برعاية آبائهم ومتابعتهم والاطمئنان عليهم، عكسي؛ فقد كنت أعود إلى منزلي في أي وقت كسير الخاطر مهمومًا، تستقبلني مشاجرات ساخنة تنتهي غالبًا بضربي وطردي من المنزل لأيام لا يسأل فيها عني أحد، وكبرت وزادت أعبائي التي خنقتني، وجعلتني أسيرًا لإحساس عاجز عن الشعور بالأمان والراحة، وتهت في دوامة أمي وأبي، بعد أن عاش كل منهما بعيدًا عن الآخر، فإذا زرت أبي غضب وثار، ويقوم بإعادتي لأمي، وإذا لجأت لأمي تقوم بإهانة أبي في شخصي، وأجلس لديها كالهم، جاثمًا على صدرها، وهكذا أحيا كل يوم في دوامة أكبر بكثير من سني، حاولت أن أجد أحدًا يحتضنني، أو يقتل بداخلي إحساس النبذ الذي استبد بي، لم أجد من يسمعني، أو يلبي ندائي، وكان الشارع هو مكاني، أظل أتجول طوال ساعات النهار، ومعظم ساعات الليل، ولم أستغرق وقتًا طويلاً حتى لعب الشيطان برأسي، ولم أجد إلا أصدقاء السوء. كان هذا هو الطريق الوحيد الذي فتح لي ذراعيه، ورحب بي، واستقبلني في عالمه، ودخلت دنيا جديدة من الضياع لم أكن أتوقعها، أقول في زماننا هذا لا عاد الآباء هم الآباء، ولا عادت الأمهات هن الأمهات، بعد أن طغت الحياة الماديَّة والمصلحة الذاتيَّة والأنانيَّة على الحياة الطبيعيَّة. إنَّ حبَّ الأم والأب لأبنائهما حب فطري زرعه الله سبحانه في وجدانهما، ويعيش في قلوبهما، فكيف يصل الحال إلى ما وصل إليه؟! إنَّها مسؤوليَّة جماعيَّة للآباء والأهل والمجتمع بجميع مؤسساته.