ربيع الناس


جاء الربيع مبكرًا –حقا- ولكن علينا أن نحميه من عواصف الرمال، وجاء رد الجميلة بالقبول لاعتراف الحب مشفوعًا باستجابة، لكن علينا أن نحرس حبنا بالعمل الدءوب على إرضاء المحبوب وإثبات جدارتنا به، ونجحنا في امتحان أول العام فلا نفرحنّ إلى حد نسيان الاستعداد يوميًا لآخره.

بدأ العمل ولم ينته، حتى الحب يحتاج جهادًا يوميًا للاحتفاظ به وإبقائه حيًا ودافئا. فلا تقولي هو يحبني فتتوقعي منه كل شيء بلا مقابل، بلا أي جهد منك لإرضائه وإسعاده، ولا تقل هي تعشقني وكفى، فتتكاسل عن قطف الورد لها، وجدل شعرها بالياسمين وأصداف البحر ولآلئه.

حتى الأم قد يتغير حبها أمام القسوة والنسيان، ومن بنى عشًا جميلًا  من رياش وطير فعليه ألا يسهو عن حمايته بكل ما أوتي من أظفار ومنقار مدبب.

لا شيء بلا ثمن، حتى الماء النقي، حتى الهواء النظيف صار عملة صعبة، وعلينا أن نفعل الكثير حتى نظفر بالسعادة، وأن نفعل أكثر لنحافظ عليها.

وأعرف أن الكلام سهل، وأن السعادة أحيانا كالماء بين الأصابع، وأن الحب –كموسم الدفء في بلاد البرد- قد يعيش زهوته المعربدة بالغناء والشمس والزهر ويرحل، تاركًا خلفه خريطة مختلفة، فيها رسم بقلم رمادي، يتكاتف حتى يغطي الصفحة.

لكني أومن بالإرادة، إذا انتبهت من غفوة الكسل أو إغماءة اليأس.  إرادة الفرد وإرادة المجموع. لقد أثبت الإنسان، في بعض حالاته الفردية وتجلياته الجماعية، أنه قادر على الإتيان بكثير مما قد يعد في الظروف العادية معجزات؛ فمن ضحايا الحرب من عبر المانش بذراع واحدة، أو رسم لوحات تشيكيلية بقدمه، ومن الشعوب من انتزعوا حريتهم أو بنوا بلادهم في زمن قياسي بعد هزيمة عسكرية ساحقة؛ ليكونوا في مقدمة الشعوب، ويحققوا من مآثر الحضارة ما فاق بمراحل ما كانوا عليه قبل الهزيمة.

إني أومن بالإرادة، فإن اقترنت بالخير كان  الخير كل الخير. وإن تعاونت إرادة الأفراد على خير الجماعات توفرت لها أجواء الإنجاز، وانفتحت آفاق الإبداع، وتحقق للفرد حلمه الخاص دون أن يكون نغمة نشازًا تشوش على اللحن الجماعي.

أما إذا سادت الأنانية منذ البداية، فسيكون الفشل حليف الجميع. فحتى الحلم الفردي يحتاج تعاونًا جماعيًا؛ لكي يتحقق، فما بالكم بحلم الجماعة؟

فإن كنتِ تريدين السعادة في الحب، سعادة الأنا والأنا فقط فلن تناليها إلا بإرضاء «أنا» المحبوب.

وقال أحد الساخرين بطبعهم، المتشككين في كل معنى نبيل: «إن التضحية نوع من الأنانية؛ لأن صاحبها لا يحقق لذته الخاصة إلا بالإيثار والفداء، ومادامت تلك لذته فهو لا يختلف عن أي أناني يجري وراء اللذة».

قالها وظن نفسه حكيم الزمان، وانتقم من خياله في كل فارس يثير أعصابه بمثالياته وأشعاره.

نعم، هناك هذا النوع من الناس. لكن حين يكون الإيثار مبعث سرورهم، والفداء قمة جودهم وكرمهم، والكرم والجود والعطاء غاية ما يطلبون من الدنيا ننعم بالأنانية تلك، وبورك هذا السعي «الخبيث» -في نظر المتشكك الفيلسوف- وراء لذائذهم.

جاء الربيع مبكرًا هذا العام في بعض بلاد الناس، فابتسم الناس لضحكته المختالة وجماله الفتان، ابتسموا دون خدر. ثم ابتسموا بحذر. ابتسموا بقلوبهم، ثم ابتسموا بعقول يقظة. وهكذا يجب أن نبتسم.

حتى في الحب علينا –بعد الفرحة الأولى- أن نبتسم ونحن نخطط للمستقبل، ونبدأ وضع الأسس له في اللحظة الحاضرة. ولابد أن تتعاون الكفان المتعاشقتان على بناء العش، وتوفير الدفء له، ومقومات الغذاء والغناء.

إن فرحة الصحو تشبه في مبدئها فرحة السكر، لكنها ما تلبث أن تختلف. ويجب أن تختلف إذا كانت تريد لنفسها البقاء.

الحب يدق له القلب أولا، ثم يتولى العقل حراسته، ويعمل الكيان كله على إنمائه، بل الكيانان معًا. وربيع الناس يختلف عن ربيع الطبيعة في أن أزهاره قابلة للبقاء لمدة أطول أو أقصر من مدد الطبيعة؛ قد يعيش سنين أو عشرات السنين، وقد يذبل ويذوي في أيام؛ ذلك أن بقاءه أو فناءه في أيدي الناس.

وعلى الناس أن يحرسوه.