رفاهية


بعض الناس لا يتخيلون الحياة دون عمل.. روتين الوظيفة اليومي يجري في دمائهم، يملأ أوقاتهم، ويشغل اهتمامهم؛ الخروج كل صباح إلى المكتب، والجلوس لساعات خلف طاولة تتكدس فوقها الملفات، المشاركة في الاجتماعات اليومية، والثرثرة مع الزملاء، وتتبع جديد أخبار الإدارة، وتفقد جداول الترقيات والرخص والانتقالات، وما إلى ذلك.

عمل مكتبي مرهق ومتطلب.. يعجز المدمنون عليه أن يتخلوا عنه، ليكتشفوا أشياء أخرى في الحياة غيره.

والدي واحد من هؤلاء..

هاجر إلى إسبانيا في الستينيات.. كان فتى ريفيًّا يافعًا حصل بالكاد على شهادته الابتدائية.

عمل هناك في وظائف صغيرة، وتعلم الإسبانية، وتابع الدراسة حتى الجامعة.. امتهن السكرتارية والتدريس والمحاسبة.. وراق له المجال الأخير، فاستمر فيه حتى تقاعده.. اسودّت الدنيا في وجهه حين علم بأن سنوات خدمته قد انتهت.. حاول المستحيل لكي يمددها، ولم يفلح.. حصل حينها على تعويض ضخم عن سنوات خدمته في إحدى شركات الصيدلة في مدريد.. وعاد إلى المغرب محبطًا ويائسًا.

 لم يبتعد عن وطنه كثيرًا عندما كان هناك.. ظل يزوره مرتين حتى ثلاث مرات في العام.. يطل علينا، ويتفقد أحوالنا، ويقضي معنا بضعة أيام، ثم يعود وحيدًا إلى غربته.

لم يوافق أبدًا على أخذنا للعيش معه في إسبانيا.. عندما بدأنا نكبر قرر أن أولاده لن يترعرعوا في غير موطنهم.. كان يخشى علينا من كثير من الأمور التي رأى أطفال المهاجرين يسقطون ضحايا لها، وكان يريد لنا أن نتشبث بديننا، ونتحدث العربية، ونحافظ على العادات والتقاليد المغربية.. ورغم معارضة والدتنا لم تستطع أن تفعل شيئًا.

 عدنا إلى المغرب، وفشلنا في أن نحقق شيئًا مما حلم به.

لم تنهِ أختي الكبرى دراستها.. انشغلت بحكايات خطبة وزواج لم تكتمل أي منها.. وتوقفت أحلامها عند هذه العتبة.. وقررت أختي الصغرى أنها لا تحتاج لعمل، فالوالد يبعث المال، والأسرة تملك العقارات، والمستقبل يبدو آمنًا ومطمئنًا.. وبدوري، لم أشعر يومًا بأن عليَّ أن أبذل من الجهد أكثر مما أنا مستعد للقيام به.. بإمكاني دائمًا، في أسوأ الأحوال، أن أفكر في مشروع تجاري، أو أن أسافر عند والدي..

عاد بغتة..

لم نشعر بمرور السنوات، ولم ننتبه إلى أننا كبرنا، ووالدنا أيضًا.

 لم يكن أيّ منا قد حقق شيئًا يفخر به.. ثلاثتنا نمضي أيامنا في  «قتل» الوقت بطريقة أو بأخرى؛ نخرج، نلهو، نسافر، وننتظر شيئًا لا نعرف ما هو بالضبط.

لم تعجبه أحوالنا، ولم يخف ذلك عنا.. كلماته كانت صادمة وغير متوقعة: لا يعقل أن نبقى عالة عليه وقد تجاوز ثلاثتنا العشرين.. حين كان في عمرنا كان يعمل، ويصرف على نفسه، ويبعث المال إلى أهله.. نحن لا نفكر في الغد، ولا نعي بأن الزمان متقلب.. لن يدوم لنا، ولن تكفينا، إن استمررنا في عيشتنا اللاهية، الأموال التي سيتركها لنا.. يجب أن ننضج، ونفهم أن الغد لا يؤمن له، ونقرر ما سنفعله بحياتنا..

بدأ يسمم عيشتنا بموال دروسه وعظاته.. نستيقظ لنجده جالسًا وسط الدار وعينه على الساعة.. ألا نخجل من أنفسنا؟! ماذا تركنا للمرضى والعجائز؟! ماذا سنفعل بيوم نقضي نصفه في السرير؟! من نظن أنفسنا؟!

نجلس للأكل، فيسألنا كيف تطيب لنا اللقمة ونحن لا ندفع سنتيمًا لتأمينها؟ إلى متى سننتظر منه أن يعولنا؟! أين كرامتنا؟!

نقوم لنخرج فيشيعنا بازدراء، ويردد بأننا لن نفلح في شيء أبدًا.

حاولت الوالدة أن تكون صمام أمان يحول دون وقوع كارثة.. شعرنا بها تلتف حولنا أكثر من أي وقت مضى، وتدافع عنا باستماتة.. نحن مازلنا  «صغارا».. لن نموت من الجوع.. سيأتي الفرج قريبًا.. أي فرج؟! لم تكن لأي منا فكرة عما تعنيه.. لم نكن مستعدين لتغيير نظام حياتنا، ولا راغبين في ذلك.. ولم يبد والدنا مستسلمًا، ولا مقرًّا بأننا لن نكون أبدًا كما يريد.

انتهى به الأمر إلى أن غيّر الوضع من زاوية لم يفكر فيها أحد منا.

فتح حاسوبه، وانكبّ على أوراقه، وانشغل عنا بعض الوقت، ثم زفّ إلينا ذات مساء خبرًا لم نتوقعه على الإطلاق: وجد عملاً في شركة أدوات طبية.. راتبه مغر، ومسؤولياته كبيرة.

انقلب حاله تمامًا، ولم يعد لديه وقت لمراقبتنا وعدّ أخطائنا، وتوبيخنا، وتنكيد عيشتنا.. قلّ الصراخ في الدار، وعمّت السكينة، وانشغل كل منا بعالمه الخاص.. أمي بطبيخها، وأختاي بقصصهما التي لا تنتهي، وأنا بـ«خرجاتي»، ووالدي بمهامه الجديدة التي بعثت روح الشباب فيه.

صار كما كان، وتنفسنا الصعداء.